دشنت القيادة السياسية للبلاد بعد استحقاقات 12 ديسمبر 2019 وبداية 2020، فترة حكمها بحزمة من الإصلاحات السياسية التي شكلت خريطة طريق لتجسيد التغيير الذي نادى به الحراك الشعبي. واستهلت عملها بمواصلة المتابعات القضائية ضد رموز الفساد؛ كأرضية لتهيئة الأجواء العامة، واسترجاع الثقة الشعبية المهزوزة في مؤسسات الدولة، لنجاح أي برنامج إصلاحي. كما وضعت الإطار القانوني العام الذي ينسجم والمرحلة الجديدة، ممثلا في مشروع تعديل الدستور، متبوعا بالقوانين والتدابير، سيما المتصلة منها بمكافحة الفساد التي حظيت بأولوية خاصة، بالنظر إلى آثارها في أخلقة الحياة العامة ودعم جهود المجموعة الوطنية. تَصدّر التعديل الدستوري المستفتى عليه في غرة نوفمبر، قائمة الإصلاحات السياسية؛ حيث شكّل، في حد ذاته، الإطار العام لتطبيق الخطة التي وعد بها الرئيس عبد المجيد تبون في شقها السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي والأمني والهوياتي. وجاءت ورشة تعديل الدستور بشكل أفقي؛ ما جعله يكتسي طابعا توافقيا وصبغة الإجماع الوطني، بحكم مشاركة مختلف فعاليات المجتمع المدني وشخصيات سياسية بآرائها واقتراحاتها، حتى تكون النسخة محل إجماع وطني، وتحقق الانسجام ولمّ الشمل الذي تقتضيه المرحلة. الدستور.. خارطة طريق لتجسيد الإصلاحات ومن ضمن أهم الإضافات التي جاء بها مشروع تعديل الدستور، تعزيزه دور مؤسسات الرقابة التي كانت سابقا مهمشة، ولا تتعدى تقاريرها مجال الملاحظات والتوصيات غير الملزمة للجهاز التنفيذي. وبموجب ذلك وسّع الدستور من صلاحيات مجلس المحاسبة، واستحدث السلطة العليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته، خلفا لما كان يُعرف بالهيئة الوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته محدودة الصلاحيات. وأعطى النص، لأول مرة، مكانة خاصة للمجتمع المدني؛ باعتباره صوت المواطن؛ إذ أنشأ المرصد الوطني للمجتمع المدني، الذي يضطلع بمهمة التطبيق الفعلي للديمقراطية التشاركية، من خلال المشاركة في التسيير، والتعبير عن رأي المواطن في اختيار المشاريع والاستراتيجيات، وتحديد الأولويات الوطنية في مجال التنمية من المستوى المحلي إلى الوطني. وإذ منح الدستور عناية خاصة بالثوابت الوطنية للهوية الجزائرية بتحصين ثالوث الدين، والإسلام، واللغة العربية والأمازيغية، فقد أعطى مكانة خاصة للتاريخ والذاكرة، معتبرا بيان أول نوفمبر المرجعية الأساسية، وشهادة ميلاد الدولة الجزائرية الحديثة، وما اختيار غرة نوفمبر لتنظيم الاستفتاء إلا تكريس لهذا البعد، وترسيخ لارتباط الأجيال بتاريخها المجيد والمشرف، وعرفان بتضحيات الشهداء وأرواحهم التي سقطت من أجل هذا الوطن المفدَّى. كما حمل الدستور روحا ونفسا جديدا للجزائر، بعدما اعترف بالفضل الكبير للحراك الشعبي في التغيير الذي تشهده الجزائر، ودستر ذلك في ديباجة المشروع. أما من ناحية تنظيم السلطات، فقد وُفقت الوثيقة إلى حد كبير، في الموازنة بين السلطات الثلاث؛ التنفيذية، والتشريعية والقضائية، بعدما استعادت هذه الأخيرة الكثير من الصلاحيات التي كانت مسلوبة منها؛ سواء تعلق الأمر بتركيبة المجلس الأعلى للقضاء، أو بالنسبة لرئاسته، حيث استُبعد بموجب التعديل، وزير العدل والنائب العام للمحكمة العليا، من تشكيلة المجلس الأعلى للقضاء. وتم إسناد رئاسة المجلس الأعلى للقضاء للرئيس الأول للمحكمة العليا، نيابة عن رئيس الجمهورية بدلا من وزير العدل. وفي الشق الاقتصادي اعترف الدستور بملكية المجموعة الوطنية للثروة الباطنية كالذهب والبترول والمعادن. وطوى الدستور الانفراد بالسلطة الذي ميز حقبة الحكم الماضية؛ من خلال تقييد العهدات الرئاسية والبرلمانية والمحلية في اثنين فقط؛ تكريسا لمبدأ التداول على السلطة، مقابل منح فرصة أكبر للشباب في القيادة السياسية، واستحداث مجلس لهم يُعنى بتعميق دورهم وتثمين مبادراتهم. مكافحة الفساد جسر لاسترجاع الثقة وحظي موضوع مكافحة الفساد لدى القيادة السياسية، بأولوية خاصة في مسار استرجاع الثقة الشعبية في مؤسسات الدولة، وتجسد ذلك في حملة مكافحة الفساد؛ تلبية للشعارات التي رفعها الحراك الشعبي. وعلى هذا الأساس تواصلت بعد الانتخابات الرئاسية في 12 ديسمبر 2019 وبداية سنة 2020، محاكمات كبار المسؤولين السابقين في الدولة ووزراء وشخصيات ورجال أعمال، تورطوا في جرائم اقتصادية؛ كاستغلال النفوذ والمنصب لنهب المال العام، وتوزيع الصفقات العمومية الخاصة بالاستثمار العمومي على زمرة من المستثمرين، خارج إطار القانون ودفتر شروط المناقصات العمومية، وهو ما كلف الخزينة العمومية خسائر كبيرة، وضيّع فرصا تنموية واستثمارية كبيرة، كان يُنتظر أن يلمسها المواطن وتحقق الإقلاع الاقتصادي، وتكون في مستوى 1500 مليار دولار التي أُنفقت خلال فترة الحكم السابقة. وعلى هذا الأساس، شكلت محاكمات كبار المسؤولين السابقين في الدولة، لحظة فارقة في تاريخ الجزائر الحديثة، استقطبت اهتمام الداخل والخارج، وشدت فضول المواطن الذي كان حاضرا في أروقة المحاكم للتأكد من أن مبدأ المساواة أمام العدالة، ليس مجرد شعار في الجزائر الجديدة وإنما واقع ملموس، وأن المحاكمات ليست حقن تهدئة لشراء سلم الشارع المنتفض. ومضت القيادة السياسية في سياسة مكافحة الفساد، بعدما وسعت دور مجالس الرقابة، وفي مقدمتها مجلس المحاسبة في مشروع تعديل الدستور المستفتى عليه، مقابل استحداثها السلطة العليا للشفافية ومكافحة الفساد والوقاية منه، التي ستوكل لها مهمة إعداد الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد والوقاية منه. كما تنوي القيادة السياسية مواصلة مشروعها الإصلاحي الوطني، في مشروع قانون الانتخابات؛ من خلال محاربة المال الفاسد، وفصله عن السياسة تماما، لوضع حد لعمليات شراء الذمم للوصول إلى المجالس المنتخبة سواء كانت وطنية أو محلية؛ حيث أبانت المحاكمات عن أن الكثير من المنتخبين كانوا "رعاة للفساد"، واستغلوا المناصب التي وصلوا إليها لنهب المال العام والثراء عبر إبرام صفقات مشبوهة، ومنح مشاريع الاستثمار العمومي خارج القانون، وما الطريق السيار شرق - غرب، ومصانع نفخ العجلات، والقروض الاستثمارية الوهمية، ورخص الاستيراد التي كانت تغطي عمليات تهريب العملة الصعبة نحو الخارج ومختلف عمليات تبييض الأموال، سوى عيّنة حية عن الانحراف العميق الذي أصاب منظومة الحكم، وذراعها الاقتصادي الذي نهب أموال الخزينة العمومية، ووضعها على أبواب الإفلاس. 1700 إخطار حول الفساد وأثمرت الجهود التي قامت بها العدالة لمتابعة المسؤولين والمفسدين لاسترجاع ثقة المواطن، حيث أحصى رئيس الهيئة الوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته طارق كور، تلقّي خلية معالجة الإخطارات لدى الهيئة التي يشرف عليها، أكثر من 1700 إخطار وعريضة تخص مكافحة الآفة منذ سنة 2019، فيما لم يكن عدد هذه الإخطارات يتجاوز 1300 إخطار من سنة 2011 و2018، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على أن جسر الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة بدأ يترمم شيئا فشيئا. وتشجيعا لهذه الجهود سيتم إصدار قانون خاص بحماية المبلغين، بعد إنشاء السلطة العليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته التي يستحدثها الدستور الجديد. كما تم وضع الشبكة الوطنية للنزاهة قصد إشراك المجتمع المدني بكل أطيافه، في عملية مكافحة الفساد. ومن المقرر أن تتدعم بمنصة رقمية، تكون بمثابة منتدى، يرمي إلى دعم برامج التوعية والتحسيس من مخاطر هذه الآفة والتبليغ عن أفعال الفساد. كما سيتم في هذا الإطار، تسطير مخطط للإنذار، يسهر على تنفيذه خلية مراقبة ويقظة تابعة للهيئة بالتنسيق مع مختلف أطياف المجتمع المدني؛ بغرض استقبال الإنذارات، وتوجيهها للسلطات المعنية؛ بهدف تأطير المجتمع المدني وتنظيمه؛ حتى لا تكون التبليغات عشوائية. رفع الحصانة البرلمانية وإلغاء الامتياز القضائي كما كانت الدورة البرلمانية خلال سنة 2020، ثرية بالمشاريع المجسدة لروح الإصلاحات السياسية، ومنها الأمرية الرئاسية المتضمنة تعديلا لقانون الإجراءات الجزائية في نص المادة 573، التي ألغت حق الامتياز القضائي في متابعة المسؤولين السامين في الدولة، وإحالتهم على المحكمة العادية وليس أمام المحكمة العليا؛ تجسيدا لمبدأ المساواة بين جميع المواطنين أمام العدالة. كما صادق نواب المجلس الشعبي الوطني على القانون رقم 20-05 المؤرخ في 28 أبريل 2020، المتعلق بالوقاية من التمييز وخطاب الكراهية، وإنشاء المرصد الوطني للوقاية من التمييز وخطاب الكراهية، الذي تم بموجبه استحداث مرصد تابع لرئاسة الجمهورية، يضع الاستراتيجية الوطنية للوقاية من التمييز وخطاب الكراهية، والمساهمة في تنفيذها بالتنسيق مع السلطات العمومية المختصة ومختلف الفاعلين في هذا المجال والمجتمع المدني، إلى جانب الرصد المبكر لأفعال التمييز وخطاب الكراهية، وإخطار الجهات المعنية بذلك، ووضع النص لمجابهة الأفعال المبنية على التمييز ونشر الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وإخطارها على ضرب اللحمة الوطنية وتفتيت الجبهة الداخلية. كما زكّى البرلمان قانون العقوبات المعدل، الذي أقر عقوبات في حق معنفي الطواقم الطبية، تتراوح ما بين الغرامات والسجن الذي يصل حتى المؤبد في حال تسبب في وفاة الضحية. ومقابل هذا، صادق على قانون لحماية الأشخاص من جرائم الاختطاف، لوضع حد لعمليات اختطاف الأطفال التي هزت المجتمع، وأدخلته في كابوس حقيقي. بالإضافة إلى هذا، تميزت سنة 2020 بالمصادقة على قانون المالية 2020، وقانون المالية التكميلي لنفس السنة، فضلا عن تسوية ميزانية 2018، كانت في مجملها تصب في خانة ترشيد الإنفاق العمومي في ظل الأزمة الاقتصادية التي فرضها الوباء، وتشجيع الإنتاج الوطني بتحفيزات ضريبية لفائدة المؤسسات الناشئة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، تتراوح من سنتين حتى خمس سنوات مع التوجه نحو المشاريع المهيكلة الخلاقة للثروة والتقليص قدر الإمكان من فاتورة الاستيراد. كما حافظت المشاريع على سياسة الدعم الاجتماعي تجاه الفئات المعوزة، واستمرار دعم المواد واسعة الاستهلاك كالسكر والزيت والدقيق، وأسعار الماء والكهرباء. وصادق المجلس على اتفاق الشراكة الخاص بالمنطقة الإفريقية الموقّع بكيدالي، والمبرمج أن يدخل حيز التنفيذ سنة 2021. ورفع البرلمان بغرفتيه الحصانة البرلمانية عن عدة نواب وأعضاء بمجلس الأمة، كانوا محل طلب إحالة وزارة العدل لمكتتبي المجلسين، قصد تمكين العدالة من التحقيق معهم في قضايا أغلبها خاص بالفساد، فمنهم من تم تبرئته، ومنهم من تم إدانته، واقتيد إلى غياهب السجون بسبب تهم ثبتت في حقهم. وكان ضمن المحالين على العدالة وزراء سابقون، وأعضاء بالثلث الرئاسي، ونواب نافذون، ورجال أعمال، وقادة أحزاب سياسية كانت نافذة في السلطة في فترة الحكم السابقة. كما نظم المجلس جلسات استماع لعدة قطاعات حيوية تأثرت بجائرة كورونا، سيما الخاصة بقطاع النقل الجوي والبري والبحري. واضطلع، بدوره، في دعم الدبلوماسية البرلمانية من خلال لجان الصداقة الثنائية، واليوم البرلماني المنظم مؤخرا لدعم القضية الصحراوية في ظل الأزمة الجديدة التي فرضها خرق المغرب لوقف إطلاق النار، وصفقة التطبيع التي وقّعها مع إسرائيل. ويتطلع الشعب الجزائري لأن تكون 2021 سنة مواصلة الإنجازات والإصلاحات المتعددة، واستكمال مسيرة دُشنت بالحراك الشعبي، الذي قرر وضع قطيعة مع كل ممارسات الماضي وانحرافاته المتعددة.