حينما تسقط ورقة إنسان يرحل إلى بارئه، هل يكون ترك وراءه أثرا، أم أنه دخل في خانة النسيان؟ الأديب والإعلامي والمترجم النبيل مرزاق بقطاش، من الذين تركوا أكثر من أثر؛ ليس في روح من عرفوه فحسب، بل في الذاكرة الثقافية الجزائرية، بأعماله الأدبية القيّمة، التي تنوعت بين الروايات والقصص والترجمات وحتى المقالات. وفي هذا السياق، أحيت جمعية "الكلمة" للثقافة والإعلام أربعينيته نهاية الأسبوع الماضي بالمكتبة الوطنية بالحامة، فكرّمت فقيد الأديب بعد وفاته مثلما كرمته حيا منذ سبع سنوات خلت. أجمع الحضور من أهل الأديب الراحل مرزاق بقطاش وأصدقائه وممن عرفوه عن قرب، على أهمية تكريم الأدباء والعلماء الجزائريين في حياتهم، وأن لا يتم الاعتراف بمسارهم الأدبي والعلمي حينما يغادرون هذا العالم فقط. وفي هذا السياق، قال عبد الرؤوف ابن الأديب بقطاش الذي غادرنا في الثاني جانفي الماضي، إنه سعيد جدا بهذا التكريم رغم أنه يحبّذ تكريم علمائنا وأدبائنا في حياتهم. كما ذكر ثلاث خصال لوالده، وهي ولعه بالكتابة والأدب، وتواضعه؛ فقد كان صديقا لأشخاص ينتمون إلى مختلف الطبقات الاجتماعية، علاوة على حبه وإخلاصه للوطن؛ حيث رفض أن يغادر الجزائر بعد محاولة اغتياله في منتصف تسعينيات القرن الماضي رغم دعوات كثيرة تلقّاها من شخصيات مرموقة من مختلف الدول، وبالأخص دول الخليج. أما ابنته إيمان فقد أكدت خلود والدها ليس في ذاكرتها فقط، بل في الذاكرة الأدبية، مضيفة أنه كاتب معجزة بعد أن نجا من محاولة اغتيال، ومشيرة إلى كرم والدها في كتاباته وحياته، كما كان وديعا، ويحب الجميع. وفي نفس السياق، تحدّث الإعلامي عبد الرزاق جلولي، عن تجاهل الوسط الأدبي الأديبَ مرزاق بقطاش، وجحوده من خلال ممارسات "ثقافية عرجاء" يجب أن تزول سريعا، معتبرا التجاهل الذي تعرّض له بقطاش "خيانة".. خيانة لرجل اعتبر الكتابة بمثابة عبادة، ولأديب أكد أن مرور يوم من دون أن يقرأ أو يكتب، خسارةٌ ما بعدها خسارة. وبالمقابل، تناوبت على منصة القاعة الحمراء لمكتبة الحامة، أسماء بارزة، قدمت شهاداتها في حق الأديب الراحل مرزاق بقطاش، والبداية بالأديبة زهور ونيسي، التي قدّمت الشهادة التكريمية لعائلة المحتفى به، مؤكدة فقدان الجزائر برمّتها أديبا مرموقا، يُعد رمزا للإخلاص، لتنتقل في حديثها إلى تكريم جمعية "الكلمة" بقطاش، الذي اعتبرته مهمّا رغم معاناة الجمعية من نقص في الموارد المالية، ومعتبرة أن هذا التكريم يمس القلوب والعقول. كما أشارت إلى قوة اللغة العربية عند بقطاش، الذي درس في المدارس الحرة بعين الباردة على يد محمد حسن الفضلاء، وإلى اتقانه اللغة الفرنسية. وقالت: "لا يجب علينا أن نبكيه؛ لأنه خالد لم يمت في ذاكرتنا، وترك إرثا أدبيا عظيما، رفع به سمعة الجزائر". وطالبت ونيسي الشباب بأن يعيشوا حداثتهم من دون أن يتخلوا عن أصالتهم، وبأن يجعلوا من بقطاش وغيره أمثلة رائعة يقتفون أثرها في حياتهم، مؤكدة أن الحداثة ليست قطيعة معرفية مع الماضي، بل علم ومعرفة وتراكم تجارب. وقال مدير المكتبة الوطنية السيد منير بهادي، إن رحيل بقطاش مفجع فعلا، لكن الغياب قدرنا جميعا. وأضاف أن هذا التكريم يدفع بنا الى تأمل الثقافة الجزائرية في انتظار تكريم الأدباء الأحياء، قبل أن تُرفع أرواحهم إلى بارئها. أما أحمد بوشيخي، رئيس جمعية "الكلمة" فقال: "فقدنا قامة عالية من رجالات الثقافة والإعلام والترجمة"، مضيفا أن بقطاش رحل، ومازال صدى نبرته المميزة تسكن الزمان والمكان، ومازالت أحاديثه معجونة برائحة البحر والحبر. كما كان أنيقا في ملبسه وكتاباته المفعمة بالحياة، ومثقفا نبيلا، مخلصا لوطنه بعيدا عن كل المشاحنات. وأضاف أن الجمعية سبق لها أن كرمت بقطاش منذ سبع سنوات، ومنحته وسام خادم اللغة العربية، لتؤكد وفاءها لبقطاش، وتكرمه أيضا بعد رحيله. وتحدّث الروائي جيلالي خلاص عن بقطاش، الذي تعرّف عليه سنة 1977، وكان قد أعاد له طبع مجموعته القصصية "طيور في الظهيرة"، حينما كان في المؤسسة الوطنية للكتاب. كما كتب عن أدبه في المجلد الذي خصصه للأدب الجزائري، علاوة على مقال كتبه بعد وفاة بقطاش في جريدة جزائرية ناطقة بالفرنسية، تحدّث فيه عن حب مرزاق للبحر. وتطرق خليفة بن قارة للقائه ببقطاش، حيث تم اختيارهما ليكونا عضوين في المجلس الأعلى للإعلام. وكان الفراق بعد أهوال العشرية السوداء. كما زاره في المشفى بعد تعرضه لمحاولة اغتيال. وذكر أنه كان مبتسما في غيبوبته. وأضاف أن عضوية بقطاش في هذا المجلس مثلت إضافة نوعية؛ فهو الإعلامي والأديب المرموق. وتابع: "كان على مؤسسات الدولة أن تكرمه في حياته بشكل مناسب؛ فهو قدوة لعاملي قطاعي الثقافة والإعلام". كما كتب خليفة مقالا بعنوان "بقطاش وخلاص وآخرون"، طالب فيه بإحداث مؤسسة ثقافية للترجمة، تهتم بإعداد قائمة للكتب الجزائرية التي ترى أن من حق العالم أن يعرفها، وإعداد قائمة أخرى للكتب التي يجب أن تترجم إلى اللغة العربية، لكن هذه المؤسسة لم تعرف النور. وفي نفس السياق، قدّم الفنان التشكيلي محمد الطاهر ومان، شهادته في حق بقطاش، فقال إنه صمم العديد من أغلفة روايات بقطاش؛ من خلال وضع رسوماته عليها؛ فقد صمم غلاف العدد الثالث من مجلة "آمال"، وخُصصت للمجموعة القصصية "طيور في الظهيرة"، وكذا مجموعته القصصية "جراد البحر"، لينتقل في الحديث إلى آخر كتاب تعاون فيه مع بقطاش وهو رواية "مدينة تجلس على طرف البحر"، فقال إنه بحث على الأنترنت عن صورة بقطاش، واختار صورة له، وأضفى على غلاف الرواية اللون الأزرق، مستلهما من رواية "الشيخ والبحر" لهمنغواي. كما أكد ثقافة بقطاش الواسعة في شتى الفنون والآداب، ومن بينها الفن التشكيلي. وللإشارة، حضر هذا التكريم أرملة مرزاق بقطاش وأبناؤه وأخواته وأقاربه وبعض أصدقائه. وفي هذا عبّرت أرملة بقطاش السيدة زهية من خلال منبر "المساء"، عن سعادتها بهذا التكريم، إلا أنها كانت ستشعر بسعادة أغمر لو حظي مرزاق بقطاش بهذا التكريم في حياته. وأضافت أن زوجها لم يكن يحب الأضواء، خاصة بعد أن خفت بصره كثيرا.