كشف الدكتور بدر الدين سلاحجة، أستاذ محاضر بجامعة قسنطينة 2، متخصص في علم آثار ما قبل التاريخ وفجر التاريخ، في تصريح ل"المساء"، عن أن منطقة بسكرة "الزيبان" تعتبر من أهم المناطق التي تحتوي على مواقع أثرية تعود إلى مختلف الحقب والعصور، مشيرا إلى أن أهم ما يميزها، الانتشار الواسع للمعالم الجنائزية التي يرجعها الباحثون إلى فترة فجر التاريخ. قال محدث "المساء"، إن تلك المنطقة مترامية الأطراف، تنتشر بها الكثير من مخلفات الصناعات الحجرية، التي تنتمي إلى عصور ما قبل التاريخ، وهذا ما لاحظه الأستاذ منذ سنة 2004، عندما شرع في البحث لمعرفة ماهية تلك المعالم على مراحل متعددة منذ ذلك الوقت، في إطار أكاديمي، تم خلاله إنجاز مذكرة ليسانس ورسالة ماجستير وأطروحة دكتوراه، شملت دراسات على المنطقة بشكل متدرج، وصولا إلى اليوم، يضيف المختص، لاستكمال البحث حول التعمير البشري لفترتي ما قبل التاريخ وفجر التاريخ بالمنطقة، مع توسيع رقعة البحث الجغرافية والفترة التي يعنى بها البحث حضاريا. لم يتردد الدكتور سلاحجة، في التأكيد بأن منطقة بسكرة لم تحظ بالدراسة الكافية في السابق، للتعريف بهذا الموروث الأثري الكبير، وفي هذا السياق، جرت عمليات مسح أثري للمنطقة، نتج عنه إحصاء ما لا يقل عن 20 مقبرة إلى حد الآن، منتشرة على الحدود الجنوبية لجبال الزاب، ويمتد توزعها من الشرق على نطاق واسع في مناطق عين الناقة، زريبة الوادي وغيرها، وإلى الغرب تمتد تلك المقابر إلى منطقة عين فارس وقرون الكبش ولقصيعات، بالجهة الغربية من الولاية، مرورا بمناطق ليشانة، طولقة، لغروس والشعيبة، دون إغفال منطقة الدوسن وأولاد جلال. أفاد المتحدث، بأن المقابر تحتوي على أنواع مختلفة من المعالم الجنائزية، منها الجثى والبازينات والنشاز، مشيرا إلى أن أعمال المسح والتحري نشرت في الأطروحة، بعد أن تم جرد 14 مقبرة منها، وتوثيق محتواها الأثري في خرائط رقمية منجزة بنظام "SIG"، برنامج "ARC.GIS". أكد في سياق متصل، أن تلك المقابر تحتوي بذاتها على انتشار واسع للصناعات الحجرية، التي تعود إلى فترة ما قبل التاريخ، ويعتبر هذا الانتشار دلالة على التعاقب الحضاري، بما أن منطقة بسكرة كانت ولا تزال تحتل موقعا جغرافيا استراتيجيا، حسبه، ناتج عن اصطدام الأوساط التلية شمالا والأوساط الصحراوية جنوبا، الأمر وفر البيئة اللازمة للتعمير البشري بالمنطقة. بالموازاة مع عمليات المسح الأثري، قال إنه تم تقديم ملف أثري متكامل على أساس أعمال البحث والتحري السابقة، في أواخر سنة 2016 على مستوى وزارة الثقافة، مع طلب الحصول على رخصة تنقيب أثري، بعد أن تمت الموافقة على مشروع الحفريات على مستوى المجلس العلمي لمعهد الآثار بجامعة الجزائر "2"، الذي يعتبر الهيئة العلمية الراعية للمشروع، وتم ذلك بعد قناعة من الدكتور، بأن البحث عن طريقة التعمير البشري بالمنطقة في فترة حضارية كبيرة، لا يمكن أن يستكمل بمجرد دراسة العمارة الجنائزية وانتشارها، ولا بد من إجراء تنقيبات أثرية للاطلاع على محتوى تلك المعالم. استرسل قائلا "تحصلنا إلى حد الآن، على 5 رخص لخمس سنوات متتالية، بعد الثقة التي وضعتها فينا وزارة الثقافة، بالنظر إلى التقارير التي نقدمها، ومتابعة الإطار القانوني للبحث الاثري"، وتم في هذا الصدد، يضيف الباحث، إجراء عمليات تنقيب على عدد مهم ومتنوع من المعالم الجنائزية، بازينات، جثى، نشاز، بطريقة علمية منظمة، ساهم فيها العديد من الباحثين في تخصصات علم الأثار، منهم دكاترة وطلبة في مختلف الأطوار الدراسية، كطلبة الدكتوراه من جامعات جزائرية مختلفة. قال سلاحجة، إنه تم عرض النتائج الأولية المستخلصة في العديد من الملتقيات العلمية الوطنية والدولية، مضيفا أنه خلال هذه الحفريات، استخرجت العديد من البقايا الأثرية المتمثلة في البقايا العظمية الإنسانية والحيوانية، والعديد من المرفقات الجنائزية كالبقايا الفخارية، وتم إجراء دراسات مخبرية، أعطت نتائج هامة فيما يتعلق بطريقة التعمير البشري لمنطقة بسكرة خلال فترة فجر التاريخ، باعتماد مقاربات جديدة في الدراسة. تعد الدراسات، يؤكد الدكتور سلاحجة، انطلاقة جديدة في مجال البحث بمخلفات المجتمعات السابقة، التي عمرت بمنطقة بسكرة خصوصا، والجزائر عموما، كما أنها تؤسس للمؤرخين والباحثين في الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع والتاريخ، قاعدة بيانات تثري الدراسات المتعلقة بالمجتمع الجزائري، والروابط التي كانت ولا تزال تطبع هويته وتاريخه المشترك، خاصة إذا ربطت الأبحاث بالدراسات التي تمت ولازالت مستمرة بمناطق الأوراس والحضنة والتل والصحراء، حيث تتقاسم مع بسكرة تقريبا نفس المخلفات الأثرية، وهذا يثبت بشكل جلي أن المجتمع الجزائري ضارب في الأرض تاريخا وحضارة، وعلى نطاق جغرافي واسع. كشف أن الحفريات الأثرية إلى حد الساعة مستمرة، حيث تم مؤخرا، تنقيب معلم جنائزي بمنطقة عين الناقة، بالجهة الشرقية لعاصمة الولاية، أعطى نتائج باهرة من حيث اللقى الأثرية، نظرا لحالة حفظ المعلم الجيدة، والتي تتميز بها معالم المنطقة، وتبقى اللقى الأثرية المستخرجة من المعلم قيد الدراسة، حيث سيتم نشرها في منشورات علمية لاحقا، بعد الانتهاء من دراستها مخبريا، يقول الأستاذ الذي أضاف، أنه سيتم اختيار معالم أخرى بالمنطقة لتنقيبها في حملات لاحقة. استطرد قائلا "قمنا بتأطير العديد من الأعمال الأكاديمية المتمثلة في مذكرات الماستر، التي درست الموروث الأثري المنتشر بالمنطقة"، والذي ينتمي إلى فترتي ما قبل التاريخ وفجر التاريخ، يؤكد المتحدث، كدراسة انتشار المعالم الجنائزية بمنطقة عين الناقة، دراسة انتشار مواقع ما قبل التاريخ بمنطقة الزاب التي تحتوي على الصناعات الحجرية، دراسة الهياكل العظمية المستخرجة من المعالم الجنائزية، والدراسة التكنولوجية والمرفولوجية للصناعات الحجرية المنتشرة بمنطقة لغروس، بالجهة الغربية لعاصمة الولاية، حيث يتواجد مثلها في الدوسن والشعيبة وخاصة بعين الناقة. لم يخف الدكتور تفاؤله بتحقيق نتائج جيدة، عندما قال "إذا ما وفقنا في استكمال دراساتنا الميدانية من الناحية المخبرية والتحليلية، سنتحصل على نتائج مبهرة" بالنظر إلى الكم الهائل من المعلومات التي استخلصت، جراء عمليات التنقيب والبحث والتحري، التي من شأنها أن تكمل وتصحح العديد من الدراسات السابقة في هذا المجال، متأسفا عن للعقبات المتعددة التي واجهت فريقه، وتتعلق خاصة بتمويل تلك الأبحاث، التي تتطلب تحليلات جد معقدة لتأريخ البقايا الأثرية ودراستها من الناحية المادية والتصنيعية، والأمر يتطلب تكاليف باهظة. اعترف أنه لم يكن سهلا إجراء هذا العدد من الحفريات الأثرية، لولا مساعدة مديرية الثقافة وسكان منطقة بسكرة، والفاعلين في المجتمع المدني، من أشخاص وجمعيات، خاصا بالذكر سكان منطقة الدوسن، طولقة وعين الناقة، منوها بجمعية "تراث الأجيال"، والتسهيلات العديدة من البلديات التي تنتمي إليها مواقع التنقيب مجددا، الإشادة بكل من ساعده وآزر فريقه بأسمى عبارات الشكر والتقدير. خلص الدكتور سلاحجة إلى القول، إنه بصدد التجهيز لحملات تنقيب أثري، خاصة بمنطقة عين الناقة، التي تحتوي على معالم جنائزية محفوظة بشكل جيد، يمكن أن تحتوي على بقايا أثرية ستثري بشكل مؤكد تلك الأبحاث، متطلعا إلى إبراز هذه المنطقة حضاريا وتعريف المحتوى الأثري الهام الذي ينتشر بها، بمساعدة سكانها ونشطائها والقائمين عليها.