لاتزال حرفة تقطير الزهور من الحرف القديمة التي تحرص العائلات البليدية على التمسك بها، وإعادة بعثها من خلال إظهارها في مختلف المناسبات الاجتماعية والثقافية. ورغم تراجع المقبلين على تعلمها، إلا أن بعض العائلات العريقة تحرص على توريثها لأبنائها حتى تظل حاضرة ولا تزول. وهي حال عمي عبد الرزاق محيي الدين، الذي يُعد واحدا من أقدم الممتهنين لحرفة تقطير الزهور في البليدة، توارثها أبا عن جد. وذاع صيته حتى خارج الوطن. قال الحرفي في تقطير الزهور عبد الرزاق محيي الدين في لقاء خص به "المساء" على هامش مشاركته في تظاهرة الربيع البليدي مؤخرا، بأن عائلته واحدة من العائلات القليلة التي اهتمت منذ القدم، بكل ما يتعلق بتقطير النباتات أيّاً كان نوعها. وحسبه، فإن انتشار هذه الصناعة على مستوى ولاية البليدة، راجع بالدرجة الأولى، إلى خصوصيتها عن باقي ولايات الوطن بالنظر إلى مناخها وغطائها النباتي؛ فكما هو معروف، تشتهر ولاية البليدة بتنوع أزهارها، وهو ما يفسر تنظيم عيد الزهور السنوي بها، ونباتاتها الطبية، وبالتالي فإن سهل متيجة يعطي وعلى مدار السنة، أنواعا مختلفة من النباتات المزهرة والخضراء؛ الأمر الذي نتج عنه حرفة تقطير الزهور، التي تباينت بين تلك الموجهة للجانب الغذائي مثل ماء الزهر المقطر، والمعَدة للجانب الصحي التي تُستخلص من النباتات العطرية والطبية. ويعود امتهان عائلة محيي الدين صنعة تقطير الأزهار والأعشاب العطرية منذ سنوات، إلى الحاجة للاسترزاق؛ حيث كانت هذه الحرفة مطلوبة جدا في الماضي. وقال المتحدث: "أذكر أن والدي كان مختصا في تقطير الأعشاب الطبية؛ من أجل مساعدة الناس على الشفاء من بعض الأمراض الموسمية؛ حيث كان يتم خلط مزيج من عدد من مستخلصات النباتات الطبية لاستخراج ما يسمى "بإكسير الحياة" ، وهو مشروب صحي من مستخلص الأعشاب"، مردفا: "وبحكم الطلب على تقطير الورود لاستعمالها في المجال التجميلي والطبخ، تحولنا إلى تقطير كل أنواع الأعشاب والزهور" ، مضيفا: "حيث وسعنا من نشاطنا، وانتقلنا إلى استخلاص الزيوت العطرية التي تُستخدم في صناعة العطور، والتي تلقى طلبا كبيرا عليها من طرف المؤسسات الصناعية من داخل وخارج الوطن". ورغم التطورات الكبيرة التي عرفتها حرفة تقطير الأزهار والنباتات العطرية، إلا أن عمي عبد الرزاق لايزال متمسكا بالطريقة التقليدية في التقطير، التي تعتمد على "القطارة". وحتى يتم تغطية الطلب الكبير عليهم، خاصة من الزيوت العطرية، وسّع مشروعه، وأدرج بعض التقنيات التي سمحت برفع كمية الإنتاج من مستخلصات مختلف النباتات والأزهار؛ فعوض تقطير في مدة عشر ساعات خمس لترات، يتم، مثلا، تقطير 20 لترا في عشر ساعات، إلى جانب إدخال بعض التقنيات التي تساعد على الرفع من كمية ما يتم استخلاصه؛ سواء في شكل زيت أو ماء، مشيرا في السياق، إلى أن حرفة تقطير الزهور والنباتات العطرية في سنوات السبعينات، لم تكن معروفة عند عامة الناس، ولكن مع الثورة التكنولوجية والاعتماد على التسويق الإلكتروني، أصبحت هذه الحرفة معروفة. وزاد الطلب عليها لاستغلالها في مختلف الأنشطة التجارية؛ الأمر الذي زاد في تمسّك العائلات البليدية، وخاصة عائلة محيي الدين بها، وتوريثها لأبنائها، وللراغبين في تعلمها.