العبادة ليست مجرد ألفاظ نتداولها وإنما هي سلوك نسلكه، فالكثير منا يغالط نفسه ويظن العبادة مجرد أداء الفرائض وحسب وينسى أنها سلوك ومعاملة والدين في مجمله معاملة، كما جاء ذلك في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وهناك من الناس من يبلغ في الدنيا أعلى مراتبها ويتقلب فيها فقد يصاب باغمائها وصرعها ويغفل قلبه عن آخرته، وهناك من يصحو من بعد السكرة ويرجع له رشده فيسلك بنفسه مسلك النجاة ومن هؤلاء السالكين يحيى بن توغان ملك تلمسان. كان يحى ملك تلمسان في موكبه من مدينة أغادير يريد المدينة الوسطى، وبينهما بقيع فيه قبور، فبينما هو يسير وإذا برجل متعبد يمشي لحاجته، فمسك عنانه وسلم عليه، فرد الرجل العابد السلام، وكلمه بأشياء، فكان من بعض ما كلمه به الملك أن قال له: أيها العابد، ما تقول في الصلاة في هذه الثياب التي عليّ؟ فاستغرب العابد ضاحكا، فقال له مم تضحك؟ قال: من سخف عقلك ومارأيت لك أيها الملك في هذه المسألة شبيها إلا الكلب. قال وكيف؟ قال: الكلب يتمعّك في الجيفة، ويتلطخ بدمها، فإذا أراد أن يبول رفع رجله حتى لا يصيبه البول، وأنت حرام كلك وتسأل عن ثيابك، فاستعبر الملك باكيا، ونزل من حينه عن دابته وتجرد من ثيابه، فرمى عليه بعض العامة من أهل الدين ثوبا، وقال لأهل دولته: انظروا لأنفسكم فلست لكم بصاحب. واقتفى أثر العابد، فصعد معه إلى العبادة بموضع عال بقبلة تلمسان، وأقام معه ثلاثة أيام. ثم أمره العابد بالاحتطاب، فجعل الملك يحتطب ويبيع بسوق تلمسان ويأكل ويتصدق بالفضل، وكان الناس إذا أتوا إلى العابد يسألونه الدعاء فيقول: سلوا يحيى في الدعاء فإنه خرج عن قدرة. ويقال إن ذلك العابد كان أبا عبد الله التونسي وقبره وقبر يحيى بالعباد بظاهر تلمسان. وعن قيس بن عاصم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ''ياقيس، إن مع العز ذلا، وإن مع الحياة موتا، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل سيئة عقابا، وإن لكل أجل كتابا، إنه لابد ياقيس من قرين يدفن معك وهو حي، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريما أكرمك، وإن كان لئيما أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك، ولا تبعث إلا معه، ولا تسأل إلا عنده، فلا تجعله إلا صالحا، فإنه إن كان صالحا لا تستأنس إلا به، وإن كان فاحشا لم تستوحش إلا منه، وهو فعلك. وقال أحدهم: ''إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا نامت على التفريط في زمن البذر فما لك يوم الحشر شيء سوى الذي تزودته يوم الحساب إلى الحشر'' وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما سمعت أبا بكر الصديق يقول هذين البيتين: ''إذا أردت شريف الناس كلّهُم فانظر إلى ملك في زي مسكين ذاك الذي حسُنت في الناس سيرته وذاك يصلح للدنيا وللدين''. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرجل يعظه: ''أرغب فيما عند الله يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس، الزاهد في الدنيا يربح قلبه وبدنه في الدنيا والآخرة، وإن الراغب يتعب قلبه وبدنه في الدنيا والآخرة، ليجيئن أقوام يوم القيامة لهم حسنات كأمثال الجبال، فيؤمر بهم الى النار ''فقيل يارسول الله، أويصلون كانوا؟ قال: ''كانوا يصلون ويصومون ويأخذون وهنا من الليل، لكنهم كانوا إذا لاح لهم شيء من الدنيا وثبوا عليه''. وعن نافع بن عمرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ''أيها الناس إن هذه الدار دار إلتواء لا دار استواء، ومنزلة ترح لا منزلة فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، ألا وإن الله خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فاجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سببا، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي، ويبتل ليجزي، وانها لسريعة الذهاب، وشيكة الانقلاب، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها، واهجروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها، ولا تسعوا في غمرات دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد الله منكم اجتنابها، فتكونوا لسخطه متعرضين، ولعقوبته مستحقين''.