قال المفكر والمناضل السياسي عزمي بشارة أننا نعيش نهاية مرحلة لم تتضح معالمها بعد، مطالبا في السياق نفسه بضرورة تلخيص المرحلة السابقة والخروج باستنتاجات تمكننا من الانتقال إلى المرحلة الجديدة بأقل صعوبة ممكنة. وأضاف بشارة في المحاضرة التي ألقاها أول أمس في إطار فعاليات الصالون الدولي للكتاب، أن شعورنا بالخيبة ليس مرده مقارنتنا بما يحدث في العالم أو بمستوى توقعات جيل الخمسينات والستينات وحسب بل يعود إلى نهاية المرحلة التي نعيشها حاليا والتي وإن كانت تنبئ بظهور ملامح جديدة فإن ذلك لن يكون بالأمر اليسير بفعل فشل مفهوم الدولة مثل ما يحدث في السودان وكذا تفضيل الحاكم لنفسه عن رعيته، مشيرا إلى أن الحل سيأتي بنمو وعي شامل يساهم في تأسيس مرحلة جديدة. وتناول بشارة مسألة الدولة القومية، فقال أن هناك شعورا لدى الشباب المثقف العربي بعدم وجود مشروع دولة قومية ناجح، مؤكدا في الصدد نفسه فشل الدولة القُطرية العربية والدليل على ذلك سقوط دولة مستقرة كالعراق بشكل سريع وتحولها إلى طوائف متناحرة مضيفا أن الدولة القُطرية لم تنجح في تشكيل بديل عن الأمة باعتبار أن عملية بناء امة هي عملية بناء المواطن والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية كما أنها أيضا عملية تواصل بين المواطن والحاكم، بالمقابل نجح مشروع الدولة القومية في تركيا وإيران وحتى مشروع الكيان الاستيطاني الذي يقبع وسط العرب. وعاد بشارة إلى بعض أسباب هذا التدهور الذي يشهده العالم العربي، والبداية بالتشابه البنيوي المستهجن والغريب بين الدول الجمهورية والممالك، مشيرا إلى أن اختفاء الحدود بين العام والخاص كارثة فالحاكم كيفما كان فهو لا يملك الأرض وما عليها وهو يمثل إرادة الشعب ويحكم وفق سياسة بشرية وليست إلهية. وواصل عزمي حديثه حول أسباب التدهور فقال أننا نعيش حالة كبيرة من الفساد فقد همّشت المؤسسات السياسية والعسكرية لصالح الأسرة الحاكمة بالإضافة إلى نشوء طبقة رجال أعمال تهتم بالربح السريع والتقرب من الأجهزة السياسية، معتبرا أنه أصبح للنخبة الحاكمة وظيفتان سياسية واقتصادية وهو ما يسيء كثيرا لاقتصاد السوق الذي يجب أن يكون منفصلا عن الاعتبارات السياسية. وفي هذا السياق، أشار المحاضر إلى أن تداخل القرابة بين السياسيين وطبقة رجال الأعمال الساعية للربح السريع علاوة على الأجهزة الأمنية، تشكل كارتل الحكم في اغلب الدول العربية. وانتقل عزمي في حديثه إلى القضية الفلسطينية التي قال أنها كانت في الأمس تطمس القضايا العربية ولكنها اليوم تفضحها، مضيفا أن الأنظمة العربية نفت مفهوم الأمن القومي ولم تستبدله بالأمن الوطني، بل عوّضته بمقولة ''الأمن النظامي'' وهو شعار لا يقصد منه خدمة المجتمع المدني بل يعنى به اختراع إيديولوجية تعطي للنخبة الحاكمة حق تخليها عن القضايا التي كنا نسميها بالأمن القومي. وتطرق المحاضر إلى المخلفات السلبية لقرارات النظام المصري التاريخي في تغيير علاقتها بإسرائيل وطالبه بإقناع الشعب المصري أن فلسطين هي حقا قضية فلسطينية وليست مسألة عربية مثلما يؤكده هذا النظام، الذي قرر أيضا الاهتمام بعلاقته مع إسرائيل انطلاقا من حرب 1967 لا غير وهنا تساءل عزمي إذا كان ما يدعيه النظام المصري صحيحا فلأي سبب حاربت مصر إسرائيل قبل سنة ,1976 أي قبل أن تكون مقصودة بالعدوان؟ ونفس الشيء يقال عن الدول الأخرى التي حاربت الكيان الصهيوني رغم أنها لم تتعرض إلى العدوان من طرفه؟ وتساءل بشارة أيضا عن سبب تحول العرب من القومية العربية إلى أحادية الهوية التي ستتسبب في تفتيت المجتمعات إلى طوائف وأعطى مثالا مرة ثانية بالعراق التي عاشت الاستقرار آلاف السنين وتحوّلت اليوم إلى طوائف تتقاتل فيما بينها ليتساءل مجددا إذا حدث هذا في العراق فماذا سيحدث في الدول الأقل استقرارا؟ وقال عزمي هل اتّخاذ مصر لهذا القرار جلب لها الاستقرار والرخاء الاقتصادي للمجتمع؟ وماذا نقول -يضيف عزمي- عن إسرائيل التي تمثل بلدا ديمقراطيا باقتصاد مزدهر رغم أنها تعيش الحرب؟ وأضاف عزمي أنه بدلا من حدوث التفتح الاقتصادي والاكتفاء الذاتي وما شابهه في مصر، حدث العكس، مشيرا إلى أن هذا راجع إلى نوعية النخبة التي قررت أن فلسطين قضية فلسطينية وليست قضيتها وهي نفسها التي قررت أن الفقر ليس قضيتها أيضا وكذا المرض والتعليم وغيرها أي هو نفس المنطق الذي يقول: ''أهتم بنفسي وبإثرائي''. وأكّد صاحب كتاب ''المجتمع المدني دراسة نقدية'' أن مقولة ''الأرض مقابل السلام'' هي مقولة إسرائيلية قيلت سنة 1967 ومن ثم تخلت عنها حينما تبناها العرب، مضيفا أن القبول بوجود استعماري على ارض عربية سابقة تاريخية وان هذا الأمر لم تعرفه الثورة الجزائرية حتى من طرف الأنظمة الملكية الرجعية التي كانت ترفض آنذاك وجود احتلال في ارض عربية، مضيفا أن هذا الرضا يعتبر خطيئة أولى تبعتها خطايا أخرى ومن أبرزها القبول باحتلال العراق، وهو ما أعطى شرعنة للاستعمار. بالمقابل، أكد عزمي على ضرورة تصحيح فكرة الأمن القومي فهي لا تعني الأيديولوجية القومية وحسب بل هي الانتماء الحضاري والثقافي الذي ليس له علاقة بالدم والأصل وغير ذلك، أما عن مفهوم الحركات التحررية فكشف أنه لا يمكن لها أن تعيش من دون دولة حاضنة وان إجراء المفاوضات حول القضية الفلسطينية من دون دعم العرب سيؤدي إلى فشلها كما شدّد على ضرورة الفصل بين حركة المقاومة من جهة والتنسيق مع أمن الاحتلال من جهة أخرى. واختتم عزمي بشارة مداخلته بشيء من التفاؤل فقال أن المقاومة العراقية وإن كانت مقاومة مجتمع بدون حركة وطنية تحرّرية فإنها استطاعت أن تخلص العالم من المحافظين الجدد، كما أن الآلاف من الناس المنظمين والمسلحين بالإرادة افشلوا العدوان الإسرائيلي على لبنان مضيفا أن قدرة التغيير هذه لا يجب الاستهانة بها خاصة وأن العرب اليوم أقرب إلى بعضهم بفعل السوق الإعلامية الذي جعلتنا نعرف مشاكل بعضنا البعض. كما أكّد عزمي أنّ الأمة العربية ضحّت أكثر لتحقّق الأفضل ولا تستحق ما يحدث لها واننا سنعيش يوما ما مرحلة جديدة وهي قادمة لا محالة.