ذكريات مضيئة تستحم بأنوارها الجزائر، لتجمع من خلالها عبق الماضي المجيد المتعطر بالدم والعرق والدموع، والحاضر المتألق الوامض بالأمل، المستضيئ برصيد من التاريخ المتميز المتحرك في ظل بناء وطن له قامته الشخصية وهويته وقيمه المتماسكة التي تغنيه عن الاستناد على غيره، في ذكرى خمسين سنة من الاستقلال وفي اليوم الوطني للفنان الذي تحالف فيه الإبداع مع الصراع، والجمال مع النضال، والفرح مع الألم لتشكيل إلياذة نسجتها مختلف الأنامل الجزائرية، لتبدع منها فنا يكتب تاريخ الجمال ويعزف ذاكرة الأجداد في خزف وفخار وموسيقى ولون وشعر وأغنية. في حصن رؤساء البحر تم، أول أمس، تكريم فنانة لطالما كتبت على الطين الوشم وعزفت على الخزف أطياف الحب والجمال والإبداع، الفنانة الخزفية المعاصرة ويزة باشا، والتي صمتت أناملها عن العزف ربيع هذه السنة، وامتلأت الخيمة المعَدة للتكريم بالسيدات اللواتي جئن للترحم على هذه الفنانة الراحلة. للطين رائحة متميزة، وهو تاريخ الإنسان والأرض، الإنسان الصلصال والفخار، الإنسان التراب والأرض، الإنسان الحياة والإبداع والإعمار، وبين الفن والحياة حكاية، وبين الفخار والإنسان بداية، وبين ويزة باشا الفنانة والطين أغنية تتجدّد وتتوالد مع الماضي والحاضر والمستقبل، لتواصل عزفها المتميز، فكل من عرف الفنانة شهد لها بهذا الرقي الفني وبعبقرية العزف على الطين لتمتين علاقة الأرض بالنفس المبدعة. يأتي تكريم الفنانة ويزة باشا في إطار الدورة الرابعة للمهرجان الثقافي الوطني للنساء المبدعات “أرضي حريتي للإبداع”، هذه الفنانة التي وُلدت سنة 1943 في قرية “تسافت” بمنطقة القبائل الكبرى، هذه القرية رغم تشبّثها بالموروث الثقافي العريق إلا أنها لم يسبق لها العزف على الخزف، فهذه الفنانة لم تعثر على حقيقتها الفنية مبكرا ولم تكن تدري أنها ستكون ماهرة في تحويل الطين إلى تحف متميزة، وانتقلت إلى الجزائر العاصمة تنهل من العلم، لتصبح إحدى منابعه تسقي به النفوس العطشى للمعرفة، معلمة في تكميلية. تزوّجت الفنانة ويزة ورافقت زوجها أحمد باشا إلى فرنسا؛ حيث وجدت في هذه الرحلة أبوابا مفتوحة على الفن بأنواعه، على غرار صناعة السلال والرسم على الحرير، وهناك تعلمت صناعة الفخار والعمل بأدوات الأرض الطينية التي قالت بأنها “تجربة رائعة”، ثم تعمّقت في هذا الفن وأنشأت بينها وبينه علاقة خاصة مرتبطة بالأصالة والجذور، ومتعلقة بالتجديد والابتكار. عادت الفنانة إلى أرض الوطن سنة 1981، وفتحت ورشة تجسد من خلالها مهارتها وتجربتها وابتكاراتها في هذا العزف المنفرد على الفخار، متنقلة في كامل ربوع الوطن، متفحصة خصائص ومميزات ترابه التي تنسجم ونسيجها الفني، ولم تكتف ويزة بما استفادته من دراسة هذا الفن، بل ذهبت لتأخذه من أنامل طالما تراكمت في لمساتها مع الفخار تجارب الجدات وحوارهن المتواصل مع الطين عبر الأزمنة، لتتكوّن عنهن في منطقة “معاتقة” بالقبائل الكبرى، ومن ثم شاركت في لقاءات مهنية وتربصات في كل من تونس، “نابل”، إيطاليا “ديروتا”؛ حيث اطلعت على التقنيات المستخدَمة في حوض المتوسط. وتمضي الفنانة في رحلتها لتستقر في فرنسا سنة 1994، وأنتجت هناك قطعا جميلة بتقنيات منفتحة على الحداثة، ومن خلال البحث اكتشفت تقنية يابانية اسمها “راكو” ووظّفتها في فنها، ومن هناك أصبح لفنها مكانته داخل الوطن وخارجه. وقد عرضت الفنانة ويزة باشا في عدة معارض ومتاحف كمعرض “ادكي” بأعمالها “نساء بربريات” وفي متحف “كي برانلي” بباريس سنة 2007، ومتحف الحضارات بكندا 2009م، هذا ما جاء في سيرة مسيرتها الفنية من خلال شهادات من عرفنها عن كثب، مثل جوهر محريز، نادية بلعايب، صحراوي فضيلة والسيد حموش، الذين ترحّموا في نهاية التكريم على روحها.