تتجه أنظار السوريين بداية من اليوم إلى جنيف السويسرية، لثاني مرة بعد عشرة أيام من انتهاء الجلسة الأولى من مفاوضات ندوة "جنيف 2"، وكلهم أمل في أن يتوصل الفرقاء إلى اتفاق لوقف الاقتتال، يكون بمثابة بداية لنهاية المأساة السورية. وشكلت فترة الاستراحة التي منحها الأخضر الإبراهيمي للفرقاء لتقييم الموقف بعد الجولة الأولى، فرصة لهؤلاء، ضبطوا خلالها استراتيجية تفاوضهم وتكتيكات المراوغة الظرفية لتحقيق الأهداف المسطرة من وراء هذه الجلسات الصعبة والمعقّدة. وتكتسي الجولة الثانية من مفاوضات جنيف الثانية أهمية خاصة بالنسبة للطرفين المتفاوضين، مما جعل الحكومة السورية تقرر الإبقاء على وزير خارجيتها وليد المعلم رئيسا لوفدها المفاوض؛ لعلمها المسبق بأن المسائل الخلافية الحساسة ستُطرح خلال هذه الجولة. وتبقى مسألة مستقبل النظام السوري في قيادة البلاد وخاصة مصير الرئيس بشار الأسد، من أكثر القضايا التي ستطغى على جدول المفاوضات، ولكنها تبقى أيضا أعقد قضية يتعين إيجاد حل لها. وهي النقطة التي جعلت أحمد الجربا رئيس الائتلاف السوري المعارض، يلبي دعوة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لزيارة موسكو؛ حيث طرح هذه الإشكالية وألح على السلطات الروسية بالضغط على دمشق؛ من أجل قبول تشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات واسعة لن يكون فيها للرئيس السوري أي دور. وإذا كان الطرفان المتفاوضان متفقين منذ البداية على اتخاذ بنود اتفاق ندوة "جنيف الأولى" كأرضية للمفاوضات، فإن الإشكالية المطروحة بالنسبة لهما تبقى في كيفية تأويل مضمونها وأولوية القضايا التي يريد كل طرف طرحها على طاولة النقاش، لحسم أزمة توشك أن تدخل عامها الرابع. فبينما يصر الوفد السوري المعارض على طرح إشكالية تشكيل الحكومة الانتقالية، يؤكد الوفد الحكومي من جهته، على اتباع مضمون ندوة جنيف الأولى نقطة بنقطة، والتي أكدت أولاها على ضرورة وقف الاقتتال وتجنيب المدنيين السوريين تبعات هذه الحرب قبل الخوض في المسائل ذات الصلة بطبيعة نظام الحكم ومن يضمن المرحلة الانتقالية ومكانة الرئيس بشار الأسد فيها. وهنا تكمن حنكة الموفد الدولي الأخضر الإبراهيمي، الذي يتعين عليه التوفيق بين نقيضي مقاربتين متعارضتين، وكل فشل يعني بصورة تلقائية العودة إلى نقطة الصفر، وبالتالي استدامة المأساة السورية. ويدرك الدبلوماسي الجزائري صعوبة مهمته، ولكنه جعل من جلوس الفرقاء إلى طاولة واحدة وفي قاعة واحدة خلال جنيف الأولى، مكسبا لا يجب تضييعه؛ لأنه يعرف جيدا أن الحوار حتى وإن كانت نتائجه "صفرية " يبقى بمثابة نافذة لا يجب إقفالها؛ على اعتبار أن الأزمات مهما كانت تعقيداتها وتنافر مصالح أطرافها، لا يجب قطع الأمل بإمكانية تسويتها في يوم من الأيام، وبعد أن يقتنع أطرافها بأن المنتصر فيها سيخرج خاسرا. وهي الحقيقة التي وقف عليها الفرقاء فعلا عشية الجولة الأولى من هذه المفاوضات عندما وجدوا أنفسهم أمام شبح جثث 130 ألف سوري وملايين المهجَّرين واللاجئين، وتحت طائلة ضغوط دولية متزايدة من أجل حسم خلافاتهم بعد أن اقتنعت الدول الكبرى بأن استمرار هذه الأزمة بكل تداعياتها، سيمس مصالحها الاستراتيجية. ولم يكن من الصدفة أن يؤكد مسؤولون أمريكيون أول أمس أن الأزمة السورية أصبحت تهدد الأمن القومي الأمريكي، وهو مصطلح عادة ما يتم استخدامه للتحذير من تبعات استمرار هذه الأزمة أو تلك، تماما كما هو الشأن بالنسبة لروسيا التي ضغطت هي الأخرى سواء على الحكومة السورية أو المعارضين لها؛ من أجل إرغامهم على قبول فكرة التفاوض، التي أصبحت الخيار الأوحد لإنهاء أزمة فشل الحل العسكري في تسويتها. وهي القناعة التي تكرست لدى وزيري خارجية البلدين سيرغي لافروف وجون كيري، اللذين يعملان بشكل منسق من أجل إنجاح ندوة جنيف الثانية. وحتى إن انطلقت جلسة اليوم وسط أجواء من الشحناء والتصريحات الساخنة، فإن انعقادها يُعد في حد ذاته مكسبا دبلوماسيا على اعتبار قناعة الطرفين بضرورة تحقيق تقدم.