كشف أطفال تقل أعمارهم عن 17 سنة، عن أن العمل وكسب المال هو أقصى ما يريدون، يعمل هؤلاء في أسواق فوضوية لبيع الخضر والفواكه، فإما يقومون بأنفسهم بعمليات البيع أو يحرسون المكان خوفا من دوريات رجال الأمن التي تمنع الأسواق العشوائية. اقتربت «المساء» من بعض الأطفال الباعة، فأكدوا لها بأنهم يشتغلون خلال العطلة الصيفية لأنها طويلة، في وقت تغيب المرافق الضرورية للتسلية والترفيه، فيما قال آخرون بأن الحاجة جعلتهم يلجأون إلى عالم البيع والشراء، لأنه عالم لا يحتاج إلى تكوين أو شهادة عليا. هو استطلاع نقلناه لكم عشية اليوم العالمي ضد عمالة الأطفال المصادف ل 12 جوان من كل سنة. المتحدث إلى الأطفال العاملين يدرك أن صغر سنهم يثنيهم عن فهم عقوبات الحياة، فعقلهم الصغير لا يجد مكانا للدروس والفروض والامتحانات، بل يدرك فقط حساب صناديق الخضر والفواكه التي يحملونها من أسواق الجملة متوجهين بها نحو سوق التجزئة، كذلك حساب «الصرف»، لأنها عملية بسيطة لا تتطلب جهدا كبيرا، هكذا يقول زكي ابن ال 14 سنة، من منطقة الكرمة بولاية بومرداس، لمحته «المساء» يبيع البصل على قارعة الطريق الرابط بين عاصمة الولاية ببلدية زموري، قال بأن لا وقت لديه لأحلام الطفولة لأنه ببساطة ليس طفلا حسبه -، فالطفل بالنسبة له هو ذلك الذي يتراوح عمره بين 3 و5 سنوات، أما هو فمسؤول عن نفسه لأنه يعيلها. اعترف الفتى بأنه تسرب من مدرسته خلال السنة الجارية، أي أنه لا ينوي العودة إلى مقاعد الدراسة في السنة الدراسية القادمة. لديه مستوى الثانية متوسط ويقول بأنها تكفيه لأنه ينوي أن يصبح تاجر خضر وفواكه، وهذه مهنة لا تتطلب تكوينا، يقول: «أترين هذه الشاحنة.. إنها مقعد التكوين بالنسبة لي، لدي أخوان يعملان في سوق الجملة للخضر والفواكه بالخروبة ببودواو، هما يقصدانها كل صباح للتبضع وأحيانا كل يومين إلى ثلاثة أيام حسب الموسم، وعند رجوعهما، يقصد كل واحد منهما وجهة معينة للاسترزاق، لكنهما لا ينسياني بل يقاسماني بعض الخضار، حوالي 4 إلى 6 صناديق، وبدوري أبيع وأجني مالي الخاص». يبتسم الطفل حينما سألناه عن مصير دراسته وشهادة المتوسط، فقال؛ «لا أنوي الرجوع إلى المدرسة بل سأحترف بيع الخضار. ففي العام الماضي، استطعت جمع قرابة 100 ألف دينار فقط خلال شهري جويلية وأوت، أعطيت نصف المبلغ لوالدتي كمصروف للبيت والباقي اشتريت به ملابس العيد ولوازم الدراسة، لكنني هذه السنة سأشتري دراجة نارية». وغير بعيد عن زكي، التقينا عمر صاحب ال 16 سنة، يبيع الثوم في شاحنة صغيرة، اعتبر بدوره تجارة الخضر مربحة تماما، خاصة مع اقتراب شهر رمضان. وأكد لنا الفتى أنه يبيع الخضر والفواكه منذ أن كان في ال 10 من عمره، ولما سألناه عن الدراسة قال بأن ‘راسو خشين'، أي لا يستوعب الدروس، ولما بدأ البرنامج الدراسي يزداد صعوبة بانتقاله من سنة لأخرى، قرر التسرب ولم يجد من يعارضه في أسرته لأن والده بائع خضر، ولأن عمر أكبر أولاده، فقد رحب به الوالد في صفه، خاصة أن ضيق الحياة وغلاء المعيشة يجعلان التوازن المادي في الأسرة الواحدة يتطلب إلى عاملين اثنين على الأقل. وضيق الأحوال المعيشية هو السبب الأساسي الذي دفع الطفل مهدي، 15 سنة، إلى سوق العمل، لمحته «المساء» بمدخل مدينة الكرمة وهو يجلس متكئا على جدار وأمامه صندوق للمشمش، قال الفتى بأنه يبيع غلة ‘البْحيرة' (أي قطعة أرض ملك للأسرة)، وهي الغلة التي تختلف باختلاف المواسم، وهي إما «دلاع» أو خوخ أو «لوبيا» خضراء أو مشمش أو حتى القصبر والمعدنوس. يوضح أنه ترك المدرسة رغم أن وضع عائلته الاقتصادي لا بأس به، إذ يقول: «تركت المدرسة منذ عام، حاول والدي إجباري على العودة إليها، لكنني كنت مشاغبا وفي النهاية استسلم للأمر، ثم أصبحت أحترف بيع الخضر والفواكه التي أجنيها من أرضنا، حيث أجني يوميا من 800 إلى 1000 دينار فقط من بيع كليوغرامات من فواكه ”البْحيرة”، أما في عز العطلة الصيفية فأعمل رفقة ابن عمي في كراء الشمسيات للمصطافين بشاطئ ‘الصابليار' وأربح في الأيام العادية حوالي 1200 دينار لليوم الواحد، وفي عطلة نهاية الأسبوع ترتفع أرباحي إلى 3000 دينار لليوم الواحد». وعن أحلامه وطموحه في الحياة، يقول مهدي بأنه جمع مبلغا لا بأس به وهو ينوي جمع المزيد ليشتري شاحنة صغيرة من نوع «هايفي» ليصبح سيد تجارته ويشتري الخضر والفواكه من سوق الجملة ويبيعها بالتجزئة بنفسه، ثم يعين بعض المساعدين له عندما تفرج عليه، على حد تعبيره. صحيح أن ظاهرة عمل الأطفال ترتفع في الغالب مع دخول الصيف الذي يعتبره الكثيرون فرصة لجني المال من خلال ولوج عالم الشغل بشتى أشكاله، ومع اقتراب حلول شهر رمضان المبارك الذي أصبح في السنوات الأخيرة يصادف فصل الصيف، فإن وتيرة النشاطات والمهن لدى الأطفال ترتفع أكثر. ففي السوق الجواري للكرمة، صادفت «المساء» ما يزيد عن 10 أطفال كلهم أقل من 17 سنة، يحترفون بيع الخضر والفواكه الموسمية، منهم الطفل أسامة 15 سنة كان حينها يبيع القصبر والمعدنوس التي يعرضها على لوحة خشبية موضوعة فوق دلو بلاستيكي، ولما سألناه عن مستواه الدراسي، قال بأنه انتقل إلى السنة الثانية متوسط ويود مواصلة الدراسة: «الدراسة هي كل شيء بالنسبة لي، أنا أبيع فقط لتمضية الوقت والحصول على بعض المدخول لأساعد والدي، أنا أكبر إخوتي.. نحن ذكران وطفلة. وأشتغل في مجال البيع بالقرب من منزلنا»، ثم أشار بأصبعه إلى منزل فردي وراءه وقال؛ «ها هو منزلنا، ولا أخاف أبدا من الاعتداءات أو الاختطافات لأن والدي يراقبني بين الفينة والأخرى». ويبدو أن مسألة الاعتداء أو الاختطاف لا تخيف البنت ياسمين ذات ال10 سنوات، أو ربما لأنها لا تدرك معنى الاعتداء لسنها الصغير، تبيع بيض دجاج المنزل؛ 10 حبات ب 200 دينار، تقول ياسمين؛ «عندما لا يتوفر لدينا البيض، أبيع حليب البقر أو المطلوع». سألناها عن دراستها، فقالت بأنها تحصلت على معدل 8 من 10 وتريد أن تكون طبيبة أسنان في المستقبل، وأنها تبيع لمساعدة أهلها». وفهمنا من حديثها أن والدها عاطل عن العمل، ولا يكترث الأطفال الباعة تحت حرارة الشمس التي لفحت وجوههم، بل ينتظرون حلول المساء فقط لحساب الغلة ومعرفة إن كانت تجارتهم رابحة أم خاسرة. هكذا قال لنا زكي الذي تفحم وجهه من أشعة الشمس الحارقة هذه الأيام، قال: «السخانة خلاص والفتها»، يعني أنه ألف الحرارة، ثم أضاف: «أترين البحر غير بعيد إطلاقا عن هنا، ما إن تنتهي سلعتي حتى أتوجه مباشرة إلى الشاطئ رفقة أصحابي للاستمتاع بالمياه المنعشة». لكن قد لا تبدو الأمور سلبية في كل الأحوال، إذ حدثنا طفل يبلغ من العمر 14 سنة بأنه يبيع الخضر والفواكه خلال الصائفة مدفوعا من طرف والده، ليس بغرض مساعدته في إعالة الأسرة، وإنما ليعرف ‘قيمة الدورو'، حسب تعبير الفتى. إذ يقول أن والده تاجر في اللحوم البيضاء ويكسب قوته جيدا، لكنه علم كل أبنائه السبعة بناتا وذكورا بأن المال لا بد أن يكسب بعرق الجبين ليدرك الإنسان قيمته، فلا يضيعه هباء منثورا. الفتى يبيع حاليا «اللوبيا» الخضراء التي جناها بنفسه من أرض والده بالكرمة. وبعدها تنتظره حبات الخوخ لقطفها والنزول بها إلى السوق وبيعها، وهناك أيضا حبات التين التي تنظر دورها. أما عن المال الذي يجنيه فيؤكد أنه بقدر ما يجد ويعمل بقدر ما يكسب منه لنفسه، يشتري به ملابسه وطبعا يحسب حساب الدخول المدرسي. ومهما كانت الآراء واختلفت، إلا أن ظاهرة عمالة الأطفال موجودة وتحتاج إلى دراسة وبحث معمقين، لأن كل ظاهرة إذا زادت عن حدها انقلبت إلى ضدها.. كما أن عمل الطفل قد يحببه في المال السريع ويبعده بالتالي عن الدراسة، فتكون النتيجة أمية مقننة..