الروائي الفلسطيني عدنان كنفاني ربّما يكون الروائي الفلسطيني عدنان كنفاني الروائي الوحيد الذي يعرف بأخيه غسان كنفاني الروائي المعروف الذي قضى شهيدا في تفجير سيارة مفخّخة كانت وراءها بصمات العدو الإسرائيلي.. * والروائي عدنان له العديد من الإسهامات، ويحظى بالاحترام في الوسط الأدبي الفلسطيني المناضل.. في هذا الحوار الذي خص به الشروق اليومي يسلط عدنان بعض الإضاءات حول مسيرته الأدبية ومسيرة المتن الروائي الفلسطيني.. * * * القضية الفلسطينية كانت ولا زالت وستظل قلب الأمة العربية والإسلامية النابض مهما حاولنا التملّص من واجباتنا والتزاماتنا تجاهها ما رأي الأستاذ عدنان كنفاني كأديب في هذا؟ * لو استعرضنا مسيرة التاريخ، لوجدنا أن فلسطين على وجه الخصوص، "وهي جوهر ولبّ وأصل القضية، وهي بوّابة المنطقة، وبوّابة السماء"، ومنطقة بلاد الشام، والبلاد العربية بوجه عام كانت "عبر التاريخ" مطمعاً للغزاة، فالموقع الجغرافي، والثروات الدفينة، والقوّة الاستهلاكية، واليد العاملة، وما إلى ذلك من مغريات كانت الدافع وراء سيول من الغزوات تعرّضت لها المنطقة بلا هوادة، وقد أذهب أبعد فأقول أنه لم تبقَ أمّة مستعمِرة على وجه الأرض لم تغزُ المنطقة، لكن، أين هم الآن.؟! ذهبوا وبقينا، فنحن الجذور والأصل، ولا يمكن لأي تغيّرات وتهميشات ومؤامرات أن تطوي هذه الحقيقة مهما بغى الباغون. * المشكلة التي أراها تطفو على مشهد الحراك السياسي الآن هي في تعدد التوجّهات "سواء عن حسن أو عن سوء نيّة"، التي أدّت إلى هذا التشتت، لكننا أمّة ولادة، نستطيع أن نبتدع وسائلنا في كل مرحلة، وتنجب أرحام حرائرنا رجالات يتوارثون النضال وطرائقه ووسائله، وكل حراك في غير هذا الطريق سيمضي إلى دمار، يدفن معه في مزبلة التاريخ كل من فرّط وتنازل، وتآمر. * إيماني حتميّ ومطلق في هذا الأمر وهذه الحقيقة، أقول نعم، فلسطين، وقضية فلسطين، هي الأصل في كل ما يجري حولنا من غرائب الأمور. * قدمت المقاومة الفلسطينية على مدى سنوات طويلة قوافل من الشهداء فماذا لو نقدم حصيلة ولو مبدئية عن ما قدمه الأدباء الفلسطينيون في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة وفي المنافي لتحرير الأرض والإنسان الفلسطيني؟ * لا أعتقد أن أي قيادة تنصّبت على قرار الشعب الفلسطيني كانت على مستوى عطاء وبذل الشعب الفلسطيني على مدى مسيرته النضالية، وحجم تضحياته، واستعداده لتقديم الأكثر، لقد قدّم الشعب الفلسطيني بكل شرائحه تضحيات أسطورية، بدمائهم كتبوا أسفار حقبة من التاريخ ستبقى أنموذجاً أمام العالم، شهداء، وجرحى، ومعوقين، وأسرى.. أرامل وأيتام، تشريد وفقر ومنافي لا أعتقد أن أي أمّة يمكن أن تحتمل ما تحمّله الشعب الفلسطيني، ويصمد، يقاتل، ويعلن في كل مناسبة عن تمسّكه بثوابته الوطنية والقومية، وكان الأدب الفلسطيني المقاوم هو المؤرّخ والمحرّض والمصوّر، وكم من الأدباء دفعوا حياتهم من أجل مواقفهم الوطنية، الشاعر عبد الرحيم محمود استشهد في ساحة معركة، ناجي العلي فنان رسام كاريكاتير استشهد من أجل ريشته، غسان كنفاني وماجد أبو شرار، والعشرات بل والمئات والآلاف غيرهم من الأدباء والفنانين استهدفتهم آلة الحرب الصهيونية بالقتل والأسر والإقصاء، لأنهم جعلوا الكلمة رصاصة أوجعت الغاصبين. * ما معنى أن تفقد القضية الفلسطينية شاعرا كبيرا كمحمود درويش؟ * * محمود درويش رحمه الله قامة أدبية سامقة، هو نسيج في القضية، وقد عبّر بالشعر عن وجع الشعب الفلسطيني، وكان شمعة تحترق وهي تنير أمام الأجيال وضاءة الطريق، ترجّل عن حصانه، وخسرته الساحة الأدبية، وهذه مشيئة الله، لكن الساحة تبقى تغصّ بشعراء فلسطينيين أفذاذ، ربما يعانون في هذا الوقت الغرائبي من التهميش والتغييب من أجل مواقفهم الوطنية الثابتة. * إن الساحة الأدبية الفلسطينية حديقة، تُنبِتُ في كل صباح أدباء وشعراء وباحثين وفنانين، وهذا قدرنا. * * الأديب عدنان كنفاني ليس معروفا بالشكل الكافي لدى المثقف الجزائري..، وإذا ذُكر (بضم الذال) لقب كنفاني ذهب التفكير مباشرة إلى الروائي الشهيد غسان كنفاني..إلى ماذا يعود ذلك؟ وهل هناك علاقة قرابة تربطك بغسان كنفاني؟ * الشهيد الأديب غسان كنفاني شقيقي، يكبرني بأربع سنوات، وقد تقاسمنا الفراش والثدي ورحلة اللجوء المرّ، نشأنا في أسرة تاريخها نضالي، وقدمت تضحيات جليلة على مذبح فلسطين، كنا نكتب وننشر في الصحف والمجلات في الوقت نفسه تقريباً، وأعتبره نبع المعرفة ومثلي الأعلى. * عندما نال الشهادة في بيروت، واستشهد مع ابنة أختي لميس نجم بتفجير سيارته، كنت أمشي مع عشرات الألوف وراء نعشهما، في ذلك الوقت، وقد كنت شاباً جاءني القرار الحاسم أن أتوقف عن النشر والانتشار، وهذا يعود لسببين تصوّرت في ذلك الوقت أنهما يستحقان مني، وفاءً لأخي غسان، أن أسلكهما، الأول أن تبقى دائرة الضوء مسلطة على غسان وأدبيات غسان وعطاء غسان دون اسم »كنفاني« آخر.. أما الأمر الثاني فقد كنت شاباً، وخفت أن يحمّلني أحدهم على شهرة غسان، وبأنني أركب سيرته واسمه، هذا القرار كلفني أكثر من ربع قرن من الغياب، كنت أكتب، لكنني لم أسعَ للانتشار، وكانت حولي مسؤوليات كبيرة شغلتني عن العالم وما فيه، ثم عندما وصلت إلى هذا العمر رأيت أن من حقي أن أكون فاعلا ومتفاعلاً في الحراك الأدبي الثقافي، ورأيت أن الواجب، ومن موقع شعوري بالمسؤولية الأدبية والوطنية والأخلاقية، يفرض علي العودة إلى الساحة بزخم نضجيٍّ أكثر كي أساهم في توريث الذاكرة الوطنية.. كان ذلك في أواخر القرن الفائت، واستطعت في فترة زمنية قصيرة أن أحقق انتشاراً لم أسعَ إليه، وقد صدر لي خلال أقل من عشر سنوات 16 كتاباً، والنشر متواصل، ليس من سيول كتابات، بل من تراكم سنوات طويلة. * وكما قلت لك يا صديقي أنا لم أسعَ للانتشار، وهذا أمر لا يعنيني كثيراً أمام استحقاقات ومسؤوليات أجدها أهم بكثير من الشهرة. * * ما هي الثوابت وما هي المتغيّرات في المتن الروائي والشعري الفلسطيني؟ * هناك أمر أجد أن علينا أن ندركه في هذه المسألة، فالتطوّر في مسيرة الحياة ومعطياتها وجوانبها الاجتماعية والسياسية والثقافية حراك فطري تفرضه الحاجة في كثير من الأحيان، فالشعر في العهد الأموي مثلاً أكثر تحديثاًً من الشعر الجاهلي، وهكذا، وتفرض حالة الإبداع، خلق أنواع جديدة في الأجناس الأدبية، كشعر التفعيلة مثلاً، والقصة القصيرة جداً، والرواية القصيرة، لكنني أتصوّر "وهذا ما أردده دائماً" أن الحداثة تنمو على الأصالة ولا تلغيها أبداً. * وعلينا أن نعترف أن واقع الحال سياسياً في الوطن العربي بشكل عام، وفي الحالة الفلسطينية بشكل خاص، خلط في طرائق تحقيق الذات الفلسطينية وذلك بالمستويات الأدبية كلها، نجد من يتمسك بعروة المقاومة كحلٍّ لا بديل عنه لتحقيق الثوابت، بينما يرى آخرون أن المفاوضات طريق سيقود إلى تحقيق ذلك، وتنقسم الساحة الأدبية إلى توجّهات متعددة ألقت بظلالها على سويّة النتاجات الأدبية الفلسطينية، أما من وجهة نظري الخاصّة، فأنا مؤمن بأن فلسطين كل فلسطين "التاريخية والجغرافية" وليس الفتات، هي حقنا الكامل والمطلق والذي لا يقبل أي خلط ولبس، وليس لنا من خيار غير خيار المقاومة بكل أشكالها، والأدب شعبة من شُعب النضال والمقاومة، وأنا متفائل حول هذا الأمر. * * الجدلية بين السياسي والثقافي كانت ولا زالت تتراوح بين الصراع والتعايش ومرات يرهنها الإقصاء.. ما الذي يمكن أن يكون عنوانا لهذه الجدلية في الحالة الفلسطينية؟ * لقد سبق وقلت بأن الشعب الفلسطيني عبر تاريخه الحديث والوسيط والقديم لم يحظَ بقيادة تمثّله، وتستثمر قدرته الخارقة على العطاء والتضحية والبذل، وهذا ما يتمثّل الآن على أرض الواقع والمجريات، وتبقى المسألة الأخطر متمثّلة بوضع الحصان وراء العربة، وتهميش دور المثقف على حساب الدور الكامل للسياسي، ودعني أقول بشجاعة، إن المثقفين والأدباء الصهاينة هم حملة فكر وممارسة الحركة الصهيونية منذ بداياتها وحتى الآن. المسألة ليست مناصب ومكاسب ووجاهات، بل يتشرّف المثقف في كل وقت "وأنا هنا أتحدث عن المثقف الوطني النظيف المتمسك بمصلحة الناس" أن يكون البوصلة التي توجّه حركة السياسي، فالمثقف هو الممثل الحقيقي لضمير الناس، أما عندما يتسلّط السياسي بالمطلق، ويهمّش المثقف، كما في حالتنا الفلسطينية، سنجد هذا التشتت، وانضواء الكثير من المثقفين "لأسباب مختلفة" تحت عباءات متعددة التوجهات، فكيف إذا كانت العباءات مشبوهة.؟! * * لو يطلب من الأديب عدنان كنفاني وضع تصنيف للأدباء الفلسطينيين .. فما هي المقاييس التي سيعتمدها لهذا التصنيف..وأين يفضل الروائي والشاعر عدنان وضع نفسه؟ * أقول بأن الأدب الفلسطيني على الرغم من كل ما يجري اليوم من سجالات ما زال بخير، وما زال الشرفاء يحملون جمر المسؤولية، وهناك أعداد تتنامى يوماً بعد يوم على مسرح المشهد الفلسطيني الثقافي والأدبي، وفي كل الأجناس الأدبية. * الشعر كما يعرف الجميع هو السبّاق دائماً في التقاط اللحظة الانفعالية، والتعبير عنها برد فعل مماثل، القصّة يأتي دورها بعد ذلك معبّرة عن حدث بعينه بأشكال فنيّة مختلفة، أما الرواية فتحتاج إلى مدى زمني أطول، وعلى الرغم من أن التأريخ ليس من وظيفة الرواية، إلا أنها تعتبر المؤرخ الأصدق. * لقد حمل الأدب الفلسطيني "بكل أشكاله" عبر مراحل نضال الشعب الفلسطيني مسؤوليته بجدارة، كان المعبّر والمؤرّخ والمحرّض والمستشرف. * لا أستطيع أن أضع تصنيفاً لنفسي، وليس من حقي، لكنني بكل تواضع أجد نفسي في جنس النثر، قصة ورواية وما إلى ذلك، كما إنني أكتب الشعر وأخوض في المقالة، ويأخذ الحال السياسي والإعلامي مساحة من الوقت والجهد.