قول غير الحق صفة ذميمة، وفاعل ذلك شخص منبوذ في جميع الأعراف والديانات، وأول ما يتراءى للإنسان السوي، عندما يصطدم بشخص، أن ينظر إليه بعين الريبة والاحتقار، وقد يحسبه شخصا معقدا وحالة إنسانية ميؤوسا منها.. هذا بالنسبة للكذاب الذي يعيش حياته مجردا من مراتب اجتماعية، دينية كانت أو سياسية، فكيف يكون الأمر، إذا كان هذا الذي نراه كذابا، إماما يصلي بالناس، ويفتي لهم، بل وكيف يكون الأمر، إذا كان هذا الإمام المفتي في درجة " مرجع" لكافة المسلمين؟. أطرح هذه الأسئلة، تمهيدا للتعريف بشخصية الإمام المرجع، المقصود بالحديث، وهو شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي، الذي قرأت له خلال أسبوع واحد فقط تصريحين متناقضين، واستنتجت بفهمي البسيط أن أحد هذين التصريحين المتناقضين هو تصريح ملفق، مادام يناقض التصريح الآخر، والتلفيق هنا يعني "قول غير الحق"، لأنه يتعلق بسلوك شخصي لصاحب التصريح، وليس استنتاجا علميا. سيد طنطاوي، أو شيخ الأزهر الشريف، سئل قبل أيام عن أسباب إقدامه على مصافحة الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز بنيويورك، فقال إنه لم يكن يعرف الرجل إلا بعد أن صافحه..وفي تصريح لاحق، تراجع شيخ الأزهر عن أقواله السابقة، وقال "في تصريح لصحيفة العرب القطرية"، إنه يعرف شيمون بيريز، وأن اللقاء بينهما حدث صدفة، بعدما توجه اليهودي بيريز نحوه، وطلب مصافحته التي تلاها لقاء وحديث لبضعة دقائق. المشكلة هنا، لا تتعلق بالمصافحة، لأن شيخ الأزهر في اعتقادي لن يكون أكثر حرصا على تعاليم الدين من رسول الإسلام "ص" الذي عاشر اليهود وتعامل معهم، بل وأحسن لبعضهم، حين أساءوا إليه، إنما تكمن في تناقض المواقف بالنسبة لشخص في مقام طنطاوي، ينظر إليه من باب المرجع الأول والأخير لكافة المسلمين، ليس بعلمه، ولكن بمنصبه. كان يمكن لطنطاوي أن يعلنها في البدء، ويصرح بكل شجاعة أنه تعمد مصافحة اليهودي بيريز، لأن الدين الإسلامي لا يحرم مصافحة اليهود، ولأنه في موقع يفرض عليه التعامل مع جميع البشر دون النظر إلى معتقداتهم، على أن تكون معاملته معهم انتصارا لدينه، ولكنه اختار المراوغة السياسية ليقع في التناقض الذي يزيد العالم غموضا بخصوص شخصيته. البابا شنودة، وهو مرجع قبطي لا يقل مكانة عن الطنطاوي عند المسيحيين، قال في تصريحات سابقة إن ما يمارسه الإسرائيليون من إبادة في حق الفلسطينيين " مسلمين ومسيحيين" في بيت لحم وغزة والخليل، وفي سائر البلاد الفلسطينية المغتصبة، يعد سببا كافيا لامتناعه عن مصافحة شيمون بيريز الذي اعتبره سفاحا، وكان موقفا "سياسيا" مشرفا للغاية بالنسبة لهذا المرجع القبطي الذي انتصر لمعتقده ولبني جلدته في آن واحد، بينما "المرجع الإسلامي"، فضل اللجوء للمراوغة. الفرق بين شنودة والطنطاوي في اعتقادي، يكمن في نظرتهما المتباعدة إلى العلاقة بين السياسي والديني، فالبابا شنودة عندما أعلن عن موقفه الواضح من لقاء بيريز، تحدث بلسان رجل الدين وصاحب الرأي السياسي في آن واحد، بينما شيخ الأزهر لا يتوفر على هذه المساحة في اتخاذ المواقف التي يفترض أن تبنى على مرجعية سياسية ودينية في الوقت نفسه، وبمعنى آخر، فإن سيد طنطاوي مسموح له بالإجتهاد في المسائل الدينية دون العودة إلى أي مرجع آخر، ولا يسمح له بالفتوى السياسية عندما تكون مغلفة بغطاء ديني إلا بالعودة إلى مراجع أخرى. مثل هذه المواقف الغامضة، تجعلنا دائما أقزاما في نظر الإسرائيليين والصهاينة، ولا أقول اليهود، هم يعلنون عن أرائهم بصراحة، ويتصرفون بما تمليه ضمائرهم، ونحن المطالبين بصدق الحديث، نراوغ أنفسنا ونكذب على بعضنا، وتلك هي مصيبتنا.