ما تزال عائلات مدينة الورود البليدة، حريصة على تزيين شرفات وفضاءات منازلها، بما فيها "وسط الدار" أو "المراح"، بمختلف أنواع الزهور، توارثا لتقاليد جميلة لم يغيبها نمط الحياة العصرية، التي طغى فيها الإسمنت على المساحات الخضراء. ولتزيين الشرفات والباحات بمختلف أنواع "النوار" على حد تعبير البليدين، هناك طقوس خاصة تبدأ بتقليم أو "زبر" شجيرات الورود، والياسمين قبل حلول فصل الربيع، الذي تتجدد فيه الطبيعة، فيكون الوقت ملائما لتغيير تربة "المحابس" القديمة، بأخرى جديدة، ونقل النبتات التي كبرت الى محابس أوسع، لبعث دورة حياة نشطة في أغصانها، حتى يزيد بهائها مسرة للناظرين، بالإضافة إلى رحلة بحث موسعة عن أصناف جديدة تكون سيدات البليدة، قد وضعت عليها النظر لأجل إضافتها الى حدائقها الخاصة، وذلك إما بالتوجه نحو المشتلات المتخصصة في بيع الإزهار، أو عن طريق جلب أغصان، أصناف جديدة يتم الحصول عليها، لدى الجيران والأهل الذين يتبادلون فيما بينهم مختلف أنواع الزهور. النمط العمراني الجديد يغيب مظاهر الورود بمدينة الورود لقد غيب النمط العمراني الجديد، الذي أصبح يتجه بكثرة نحو العمارات والفيلات العديد من مظاهر الحياة اليومية للبليديين، الذين و بالرغم من ذلك ما زالوا متمسكين بشيء من عاداتهم المرتبطة بتاريخ المدينة العريق، على غرار غرس مختلف الزهور والنباتات في فصل الربيع، وهي العادة التي كانت تجعل من ساحات البيوت المبنية على الطراز القديم "وسط الدار"، جنة غناء تفوح منها رائحة الخيلي والياسمين، وتعبق بنسمات الورد المسكي في أرجاء المكان، لتذكر الكل أن المكان هو البليدة ..مدينة الورود. فالمدينة التي أسسها العلامة سيد أحمد الكبير حملت وإلى وقت ما طابعا أندلسيا محضا، تجلى من خلال حدائقها المميزة، التي كانت تفوح بعطر مسك الليل، مع حلول كل مساء، حيث كان الاهتمام بتلك الحدائق يمثل صورة من صور حرص الولي الصالح على إبراز ما تجود به أرضها الطيبة. وهو الحرص الذي تتمسك به العائلات البليدية، اليوم من خلال تجديد الحدائق وإن تقلص حجمها، بسبب النمط العمراني الحديث والضيق في غالب الأحيان، ويكون ذلك عن طريق الغرس في مثل هذا الموسم، لتبعث روح جديدة فيها، مع أولى أيام الربيع. تزيين الشرفات وسلالم بالعمارات لتعويض الحنين الى "وسط الدار" وبين الأمثلة التي تدل على حب البليدين للزهور، ما قامت به السيدة وهيبة، بحي زعبانة بقلب المدينة العتيقة، والتي حولت سلالم العمارة التي تقطن بها إلى معرض حقيقي لأنواع مختلفة من الزهور. وتقول هذه السيدة "إنه و إن لم يكن كما أرادت إلا أن هذا المكان يبقى متنفسا وحيدا للحفاظ على عادة توارثتها العائلة تتمثل في حب كل ما هو مزهر و فواح." وأضافت السيدة وهيبة ان كل الجيران يعتنون معها بمجموعتها التي زينت بحق العمارة، وأعطتها طابعا خاصا عن باقي عمارات الحي، اذ حتى الأطفال وعلى صغر سنهم، باتوا مهتمين بتلك الزهرات، ولم يحدث لها أن واجهت مشكلا معهم. وهناك مثال أخر عن هذا الحب للطبيعة، يتجلى في عيون السيدة مليكة وهي تتوجه نحو شارع "العيشي" المحاذي لساحة الحرية بوسط المدينة . وتقول هذه السيدة، أنها تسترجع مع حلول فصل الربيع ذكريات منزلها العائلي القديم، الذي كان يحوي "وسط الدار" الذي كان يضم كل أنواع النباتات المزهرة، وهي الذكرى التي تحاول أن تبقيها حية، من خلال شرفة شقتها ب"بني مراد"، والتي تعمل على تزيينها حسب ما تسمح لها طاقتها، ومحيطها مشيرة الى "مشكل الحصول على تربة مناسبة"، لتجديد "المحابس" بسبب زحف الاسمنت الذي أتى على الأرض الخصبة. زحف الاسمنت.. وراء صعوبة الحصول على التربة يمثل الحصول على تربة ملائمة لنمو الحبق، والعدرة صعوبة حسب الكثيرين الذين يشيرون الى زحف الاسمنت، الذي حول العديد من المساحات بعاصمة الولاية وبمدنها الكبرى، إلى مناطق جافة تغيب عنها أتربة وتموت فيها أي نبتة. ولذلك تلجأ الراغبات في تجديد محيط نمو أزهارهن تكليف بقية أفراد العائلة ب"البحث عن التربة ". وقد يتسبب بعض الشباب أو حتى أرباب العائلات بضيق الوقت وبمشاغل الحياة اليومية، حتى لا يوقوموا بجلب التربة فيما يبقى المحبون، والمتمسكون بالعادات البليدية، على موعد البحث عن التربة، عبر أطراف المدينة، والاجتهاد في جلب تربة خصبة ضرورية للحفاظ على دورة حياة حدائقهم، وتكون وجهة البعض منطقة سيدي الكبير، وبالضبط بمحاذاة الوادي للحصول على تلك الأتربة. بائع الأزهار ..هو أيضا بائع للتربة تيسيرا لمهمة زارعات الاخضرار وقد اهتدى باعة الورود في المشتلات أو في المعارض التي تقام هنا وهناك بالبليدة انطلاقا من شارع "العيشي" المعروف بإقامة معرض سنوي للزهور، وصولا إلى مشتلات "قرواو"، وبوينان بشرق الولاية، الى نشاط اضافي يتمثل في بيع التربة الضرورية، لتجديد محابس الغرس، مما يسهل كثيرا عملية البحث عن تربة الغرس لدى الكثيرات من محبات الاخضرار. وقد لقي هذا النشاط ترحيبا كبيرا من طرف زبائنهم لاسيما من قاطني العمارات، ويقول بائع الأزهار شعانبي رضا، أنه يقدم هذه الخدمة لزبائنه الذين هم من كل شرائح المجتمع، لا لشيء سوى للحفاظ على ارث توارثته عائلته، المتمثل في التشجيع على حب الأزهار، وغرس النبتات، مثلما كانت تعرف به مدينة البليدة مدينة الورود.