تعتبر المدرسة القرآنية بمسجد إبن فارس بحي القصبة إحدى أهم الروافد الدينية والثقافية ومنارة هامة من منارات تحفيظ القرآن وتلقين أصول الفقه لمختلف الشرائح العمرية من كلا الجنسين، حيث يفوق عدد المسجلين بها 100 طالب قرآن أغلبهم من سكان الحي. وفي هذا السياق، أكد "بلقاسم زيزي" معلم القرآن بمسجد إبن فارس منذ 13 سنة، أن المدرسة تسجل إقبالا متزايدا في رمضان لقدسية الشهر في قلوب الجزائريين وكذا في مناسبة المولد النبوي الشريف أين يتم تدارس السيرة النبوية وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة في طريقة الاحتفال بخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم. وكشف محدثنا أن عدد المتخرجين سنويا يبلغ ما يقارب أربعون طالبا حافظين لكتاب الله وفق أحكام الترتيل وتجويد القرآن، وهذا بتأطير من قبل أئمة وأساتذة مختصين في العلوم الشرعية، مرجعا عدم تخرج كل الطلبة المسجلين لقيام بعضهم بتغيير مقر سكناهم وترحليهم من القصبة وآخرون لوجود فتور في أنفسهم نتيجة الظروف الاجتماعية الصعبة. وعن شروط الإلتحاق بالمدرسة، ذكر" بلقاسم" أن التعليم مجاني مفتوح لكل الشرائح المجتمعية بحكم تواجد المسجد بالقصبة ولا توجد أي اشتراكات سنوية، فقط يشترط الحضور المستمر والمواظبة على إتباع الدروس، متبعا قوله بأن الفقراء والأيتام الذين يلتحقون بالمدرسة والقاطنون بالحي يحبهم أكثر، إدراكا منه بأهمية الاهتمام بهاتين الشريحتين، وفي تقديره تبقى المفاضلة للمثابر والجاد. وفيما يخص طرق التدريس داخل المدرسة، أوضح "بلقاسم" أن منهج التدريس المتبع يكون برواية ورش عن الإمام نافع ويتم الحفظ بالأحزاب، بحيث تخصص أربعة أيام من كل أسبوع لتحفيظ القرآن الكريم بالاعتماد على الطريقة القديمة في القراءة بحيث لا يدرك الطالب أنه يحفظ الأحكام، مضيفا بأن المدرس إذا لاحظ وجود طاقة استيعابية من قبل بعض الطلاب، فستخصص لهم دروس في الفقه عن الإمام مالك، ويتم ضمهم لحلقة أحكام التجويد وتدارس متن من المتون، وفي حالة ما إذا كان هناك تفاوت في الحفظ من قبل بعضهم فيتم المواصلة من حيث أتموا وذلك بعد إثبات مستواهم التحصيلي. وعن الوسائل المتاحة للتدريس أردف بقوله " نعتمد على الطرق القديمة التي تعلمناها في حلقة الحزب ذلك لأنها تسمح بالحفظ أحسن من الطرق الحديثة، ولكن هذا لا يعني أننا لا نستغني عنها، فأحيانا نقوم بتدريس أحكام التجويد عن طريق برامج حاسوبية لتعريف الطلبة على مخارج الحروف، إضافة إلى مكتبة المسجد المجانية التي تحوي مراجع قيمة في الفقه، النحو، وغيرها وبإمكان كل الطلبة الاستفادة منها. وأشار"بلقاسم" إلى أن منح الشهادات للحفظة حاليا لا يتوفر للمدرسة، سيما أن الطالب الحافظ لكتاب الله يتم توجيهه لجهة أخرى لمواصلة تكوينه على أيدي كفاءات علمية وإمكانات مادية متاحة، لأن بالأساس العمل لا يتوقف على أشخاص معينين. هذا ولم يخف معلم القرآن اسستحسانه لتشريع قانون مبني على مشورة أهل الميدان بحيث يضبط المقاييس الواجب توفرها في المدرسين، علاوة على المناهج المتبعة في تحفيظ القرآن الكريم وتلقين مختلف العلوم الشرعية للناشئة بطرق حديثة تسمح بتوسع مدارك الدارسين، مبرزا أن فرض القانون دون معرفة مضامينه ونتائجه مرفوض. ونحن في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، يتبارى أهل الله وخاصته على إتمام حفظ القرآن الكريم، ومن بين هؤلاء الطلبة ذوي العزيمة والإصرار على ختم الستين، الطالب "سعال عادل" الذي لايتعدى عمره 15 سنة والقاطن بإحدى أحياء القصبة العتيقة، إنه واحد من بين التلاميذ المجيدين بمسجد فارس بشهادة أستاذه، ألحقته والدته وعمره لايتجاوز ست سنوات بمسجد" إبن باديس" لتعلم بعض الأحاديث والسور القرآنية وأبجديات اللغة العربية بحكم دراستها بذات المسجد، فتروضت نفسه على اعتياد بيت الله وأضحت روحه تهفوشوقا لنهل المعرفة الإيمانية على درب السلف الصالح والإرتواء من لبن التواضع عن أستاذيه اللذين يكن لهما كل الحب، فتتلمذ على يدي الشيخ عز الدين بمسجد إبن باديس بالعاصمة والشيخ بلقاسم بمسجد فارس بالقصبة، وما شده أكثر في شخصيهما كونهما يتعهدان الطلبة بالمزاح حتى لايملوا. وذكر"عادل" أن دخوله للمسجد جعل الكثير من أبناء جيرانه في الحي يتبعونه، حيث أنه قام في أحد الأيام بإقناع أم أحد أصدقائه بما يقدمه المسجد من فائدة دينية ودنيوية، ومنجاة لرفقاء السوء، فأقدمت على إرسال ابنها للمسجد، ليكون صديقه هذا القدوة لسبعة أطفال آخرين بالحي، فأصبحوا بذلك رفقاء بيت الله. و أرجع "عادل" سبب انتقاله من مسجد ابن باديس إلى فارس، لبعد المسافة ما جعله يكون غير منتظم بسبب وصوله متأخرا عن الدرس، مضيفا أن قرب مسجد فارس من بيتهم سمح له بالتحسن من ناحية الكم المستوعب من المعرفة الدينية نظرا للطريقة المتبعة في حفظ القرآن التي تسهل الاستيعاب والتوقيت المقترح للتدريس. وفي ما يخص نتائج دراسته بمتوسطة "محمود طالب" بالقصبة، قال "عادل" أن نتائجه جيدة وفي تحسن مستمر وأكد ماقاله أستاذه صحيح في كون الذين يحفظون القرآن الكريم هم المتفوقون في الدراسة". "عادل" هو واحد من أطفال الجزائر الذين لم يولدوا وفي فمهم ملعقة من ذهب، بل ولد في حي شعبي ومن عائلة متواضعة، لكن حمل بين جنبيه نفسا متفائلة بعيشه في رحاب الأجواء الروحانية والتربوية بين المسجد والمدرسة، ينتظر بشغف ذلك اليوم الذي يختم فيه القرآن مع والدته التي يتنافس معها في الحفظ ويعتبرها أحن صدر عليه وأكثر تشجيعا له، داعيا الله أن يحقق حلمه الأكبر وهوأن يصبح طيارا يحلق في الأفق. وبهذا تكون المدرسة القرآنية لمسجد إبن فارس رغم قلة الإمكانيات التعليمية المسخرة لها، نموذجا في تأطير الحفظة دينيا وخلقيا وتحصينهم ضد الانحرافات المختلفة، والتي لاتزال تشهد إقبالا من قبل سكان القصبة.