وإن طليت جدرانه بالذهب يظل سجنا غناء ورقص ودموع ... بسجن الحراش "السجن وإن طليت جدرانه بالذهب يظل سجنا "... لا أعرف لما ظلت هذه الجملة للقاضية مريم شرفي ترن بأذني وأنا أضع قدمي بسجن الحراش، وتزاحمت الأفكار بخاطري عن الحياة وراء القضبان . تساءلت كيف هي الحياة داخل السجن، وكيف هي الحرية وراء القضبان ... فرحت جدا وأنا اسمع القائد الكشاف عبد الغني يشير لبواب السجن بأنني صحافية وغير ملزمة بترك كاميرا التصوير في المدخل قبل الدخول كما كان الحال مع باقي أعضاء الوفد الكشفي العربي الذين أرافقهم في زيارتهم للسجن ، في إطار الورشة الدولية الأولى حول " دور الحركة الكشفية في إدماج المساجين الأحداث والشباب المساجين " والمنظمة بفندق الرياض من 12 إلى 17 ماي الجاري . توفيت ابنتها وهي بالسجن كانت السجينة " م" الأولى التي تحدثنا إليها داخل المؤسسة العقابية " الحراش " ، لم نبذل الكثير من الجهد لإقناعها بالحديث ، بدا وكأنها تشتاق للتواصل مع أشخاص من خارج الفضاء العقابي الذي تقبع به منذ أكثر من عشرة أشهر ، وقد زج بها فيه لتورطها في السرقة رفقة زوجها ، ما هي إلا كلمات حتى قالت " ماتت ابنتي وأنا هنا ... لم أرها " ، وارتعش صوتها ومزج بالدموع ، وواصلت " عمرها عشرون عاما " ، سألناها إن لم تحصل على إذن بمغادرة السجن لرؤيتها أو حضور مراسيم دفنها ، فردت بسرعة نافية " لا ، الإدارة لم تمنعني ، ولكن عائلتي أحجمت عن إبلاغي بوفاتها " قبل أن تردف بحسرة " ... لكن الخبر السيئ لا بد أن يشاع " . لم نتمكن من مواساة " م " لأن الوفد الذي نرافقه تحرك نحو زاوية أخرى بالسجن ، وكان لزاما علينا المواكبة ، خاصة وأن أحد الحراس طلب منا ذلك . غادرناها وعيوننا معلقة بها، بينما عيناها معلقتان بأمل قد يبزغ في كلمة من مدير السجن الذي ينتظرنا أو حتى منا ...هكذا بدت . عرب في ضيافة سجينات "الحراش " دخلنا قاعة أخرى بها أزيد من عشر نساء وفتيات ترتدين المآزر البيضاء، أغلبهن تضعن شالا أو خمارا على رؤوسهن ، بعضهن مبتسمات وأخريات ملأ الفضول عيونهن لمعرفة سبب الزيارة ومن نكون ، بينما ظلت البقية غير قادرات على الحركة لا تتجاوبن حتى مع التحيات التي ألقيناها. إنها قاعة تعليم الطبخ والحلويات التقليدية ، والدرس اليوم " قاطو غولي " ، هكذا كتب على السبورة الصغيرة ، كانت المقاعد شبيهة بتلك التي جلسنا عليها جميعا ونحن في مدرسة الابتدائي ، مع ضيق القاعة التي يقابل بابها مباشرة أخذ الكشفيون العرب القادمون من دول عربية عديدة يسألون السجينات عن اسم الكعك قفي محاولة لكسر الحواجز ، وضحكت المسجونات وهن تقفن على تلعثم السوري بسام في نطق كلمة " قاطو غولي " ، في لحظة ما بدين أنهن نسين أنهن مسجونات وأن هناك بابا وأسوارا تخنق حريتهن . واتسعت عيونهن أكثر فأكثر وهن تراقبن الضيوف يتذوقون " الغولي " ، ومع اتساع عيون الضيوف إعجابا بالمذاق الحلو ، ضاقت عيون السجينات وهن تبتسمن سرورا ... وكأنهن تقلن لنا " ها نحن نجيد فعل شيء مفيد وصالح ". غادرنا القاعة وفي طريقنا سألني مدير السجن عن مهمتي بالضبط ، فأخبرته أنني بصدد انجاز روبورتاج عن السجن ونزلائه ، وبدا ممتعضا لأنني لم أطلب الإذن منه واستغليت فرصة دعوتي من قبل الكشافة " لاقتحام سجنه " والاقتراب من المساجين ... ولم يتطلب موقف المدير إصدار أمر ليفرض علي حارس بالسجن طوقا أمنيا مشددا... عليلو... شوق للحديث مع العالم الخارجي وكانت وجهتنا هذه المرة قاعة التمرينات الرياضية، لم نجد بها غير الرجال، ويدخلها أولئك المصرين على الحفاظ على لياقتهم البدنية ورشاقتهم حتى وراء القضبان ، لكن أيضا أولئك الذين يأخذون من ممارسة الرياضة سبيلا للنسيان . واصلوا ممارسة رياضتهم المفضلة: رفع الأثقال، اقتربنا من أحدهم فتجاهلنا، ففضلنا أن نسأل زميله عن حاله فرد أنه بخير " نمارس الرياضة لننسى، ونقتل وقت الفراغ "، وبدا رفيقه الذي تجاهلنا في البداية مهتما هذه المرة وقال " أعوام... مهما مارسنا من أنشطة لن نجعلها تمضي بسرعة ". وفجأة دوى صوت قوي، صمتت القاعة للحظة وأخذ الجميع يبحث عن مصدر الصوت، إنها إحدى آلات تقوية العضلات، لقد انزلقت الرافعة، فمستخدمها انشغل عنها بإشباع فضوله عما يدور بيننا وبين زملائه من حديث. دقائق قليلة مرت، وهاهي القاعة فارغة إلا منا ومن عليلو وزملاؤه... بدا عليلو مفعما بالحيوية وأكثر إقبالا على الحياة ، فهو يبادر بالحديث إلينا بصوت عالي لا يعصره ألم ولا حسرة ، أردنا أن نعرف قصته وسر اختلافه عن زملائه بالسجن ... ورغم أنه أصر على الحديث إلينا إلا أن الحارس أصر أكثر على مغادرتنا القاعة ... غادرناها وقد تراكم بعيون عليلو الكثير من الكلام ... رقصات سورية جزائرية بسجن الحراش دخل الوفد العربي قاعة كبيرة، بها مقاعد متراصة على شكل صفوف شغلها أعضاء الوفد العربي، في حين احتل المساجين الصفوف الخلفية، ودعا منشط " الحفلة " أحد المساجين لتلاوة آيات بينات ، بعدها دعا إلى الوقوف للاستماع للنشيد الوطني، ووقف السجناء معتدلين مستقيمين صامتين... منهم من أخذ ينشد بحماس فاض من عينيه، ولم يلاحظ أي منهم مشغول بأمر آخر غير الإصغاء أو الإنشاد. وبصوت رخيم اقشعرت له الأبدان غرد أحد السجناء، مناديا بروح فلسطين ، ومعه رفقاؤه الثلاث ، ومع اللمسات الأولى " للبونجو" و"الموندول" والدف والدربوكة ، حتى ذاب كل ما في القاعة من حواجز. ... وما كان من الحضور المتفاجئ سوى التصفيق بحرارة كبيرة . ومن فلسطين عرجت الفرقة من خلال إيقاع الشعبي إلى أغاني من التراث، وخلال ذلك بدا واضحا أن بعض المساجين يرغبون بالرقص ، وبدؤوا يتغامزون ويضحكون منتظرين سببا قويا ليبرر وقوفهم للرقص ، ومع زيادة سرعة ريتم الأغاني الشعبية الخفيفة بدا من المستحيل عليهما تمالك نفسيهما ، ليهما بسرعة إلى المنصة وبدا وهما يرقصان وكأنهما لا يريان أحدا غير نفسيهما ، محاولان استدراك ما فاتهما من وقت " ضيعاه " في الجلوس ، ونالت الأغاني والرقصات إعجاب الضيوف العرب إلى درجة أن القائد الكشاف " بسام " من سوريا لم يتمالك نفسه والتحق بالسجينين وشاركهما الرقص تحت تصفيقات قوية من الحاضرين بمن فيهم مدير السجن والقائد العام للكشافة الإسلامية الجزائرية . من الجامعة إلى الزنزانة انتهت الحفلة، ومعها انتهت الفرحة المؤقتة لمن كان سعيد الحظ من نزلاء السجن وحضرها ، وهاهم الآن يهمون بالمغادرة وقد استرجعوا الشعور بأنهم سجناء وسجينات ... نظرات تسعى للتحرر . أراد مدير السجن " الكريم " أن تكون ختام جولة ضيوفه ذكرى حلوة عن زيارتنا لفضاء طبيعة كل الذكريات به مرة ، وظللنا نسأل السجناء ، فتأخرنا بالالتحاق بالوفد الذي كان قد غادر وشرع في تناول الإكرامية ، وفجأة سمح لنا الحارس بأن نظل وقتا أطول مع السجينات ، بل إن الحارستين المحجبتين اقترحتا أن نتجه لقاعة أخرى للتواصل الجيد معهن ، لم نصدق هذه " الإكرامية " ، وتبعنا السجينات ومعهن الحارستان ، ورواق بعد رواق ، وباب وراء آخر ، أحسسنا أننا نتوغل في أعماق الصمت والهدوء ، لكننا خفنا أن يقرر أحدهم فجأة توقيفنا وإرجاع السجينات للزنزانات ، فشرعنا في طرح الاسئلة ونحن نسير خوفا من "منع مباغت " ... بالصدفة سألنا الأقرب إلينا عن وضعها بالسجن فردت بصوت خافت أقرب للوشوشة ، وقالت أنها مسجونة منذ أشهر ، سألنا عن السبب فقالت " شيك من دون رصيد " ، وواصلت تفاجئنا " كنت مسيرة لوكالة لاستيراد العتاد الفلاحي " ، جامعية إذن ؟ سألناها فردت " نعم " . بدت مستسلمة للواقع المر، سألناها هل كانت يوما تتوقع مصابا كهذا فردت " أبدا، تماما لم أتوقع أن أدخل السجن، درست بالجامعة وكنت طالبة ناجحة ولامعة، أحببت دراستي و تخصصي والمهنة التي مارست... لكن " ، تصمت قليلا دون أن تتوقف قدماها عن السير إلى جانبا ... قبل أن نواصل طرح الأسئلة، صوت من بعيد قادم من وراءنا يسأل عنا ، ترد الحارسة أنها ذاهبة معنا ، " إلى أين هي ذاهبة ؟ " - يقصدونني - ، وترد تشرح نيتها في البحق عن قاعة لاستجواب النزيلات ، وإذا به يثور ويطلب منا العودة ... وهنا انتهى تواصلنا مع السجناء ... غادرنا السجن ... ونحن نسمع رجع صدى غلق الأبواب ... فجأة بدا المكان موحشا وفارغا ... خلفناه وراءنا ونحن نتخيل تلك الطاقة التي حركت تلك الأجساد للرقص ، هاهي تخمد وتركن لمساحة صغيرة تفرض عليها عدم مغادرتها إلا في أوقات محددة ... صدقت القاضية مريم شرفي حين قالت " " السجن وإن طليت جدرانه بالذهب يظل سجنا... " .