* * جزائريون يغازلون القنابل ويتحدثون البارود.. وآخرون يشترون الموت * * رغم أن اللغة العربية تعتبر أكثر اللغات العالمية ثراء، سواء من خلال المفردات أو المعاني، إلا أن الجزائريين وجدوا أنها عاجزة عن نقل كل ما يريدونه، فراحوا يستعملون ألفاظا دخيلة، هي مزيج من الفرنسية والانجليزية والإسبانية والأمازيغية، واللغة الشعبية المستمدة من تطورات المجتمع والتغيرات التي تطرأ عليه. * القاموس اللغوي للجزائريين تزود خلال السنوات الأخيرة الماضية بمصطلحات جديدة هي أقرب ما تكون إلى التعبير عن الحالة الاجتماعية لصاحبها الذي يردد تلك الكلمات، حيث أنه لم تعد تلك المصطلحات بالدارجة الموروثة عن الأجيال القديمة مستعملة ومتداولة بشكل كبير مقارنة بسنوات مضت. * وإن من الطبيعي، حسب البعض أن تشهد اللسانيات في المجتمع الجزائري هذه التغيرات، بحكم تغيره هو الآخر، فإنه من غير المعقول أن تكون تلك التغيرات على نحو يوحي بأن الفرد الجزائري أصبح ماديا لأقسى الدرجات، وعنيفا وهمجيا في أبشع صور الظاهرة، وساذجا لدرجة يبدو فيها أنه لا يعي ما يقوله. * * يأكلون النساء ويجامعون الأكل * عرف الجزائريون أنهم يستعملون الكثير من الألفاظ والمصطلحات الغريبة والتي تصل في أغلب الأحيان إلى درجة السوقية والفحش، ومن الصعب على المتجول في أزقة وشوارع أي شارع أو زقاق في أي منطقة كانت، حتى تلك التي كانت بالأمس القريب توصف بالمحافظة، أن يصد عن أذنيه تلك "المواويل" التي يرددها الشباب وغيرهم في كل مكان، وبلغت درجة "شهرة الجزائريين في هذا المجال أن قال فيهم أحد مشايخ العلماء المسلمين، حسب ما نسب له، "عجبت لقوم يأكلون النساء ويزْنون الطعام"، في إشارة إلى المصطلحات الغريبة المتداولة بشكل كبير بين سائر الجزائريين، والتي لم تتعد فقط حدود الحشمة، وإنما كسرت كل المفاهيم المتعارف عليها بين الناس، فقد كان ومازال أهل قسنطينة وكل الجزائريين يصفون تعاملهم مع وجبة الأكل بألفاظ جنسية لا تقال إلا عند مجامعة النساء، وفي الوقت ذاته يشبه الجزائري زوجته أو صديقته بوجبة الأكل الدسمة كناية عن اللذة الكبيرة التي يجدها في لقائه الجنسي معها. * * "البومبة".. آخر إبداعات رومنسية الموت * لم يعد غريبا عندما نسمع شابا يتغزل بجمال حبيبته وأنوثتها وهو يصفها ب"البومبة" لأنه لا يملك في قاموسه اللغوي الصغير ما يمكنه من صناعة تلك الهالة من الإعجاب لحبيبته في مخيلة رفاقه الذين يتحدث معهم. * ولأن "القنبلة" دليل القوة، فإن هذه الكلمة أصبحت تستعمل في كثير من الأحيان كأسلوب للوصف المثالي لأي امرأة جميلة، لأنها تعتبر بنظر الكثيرين من مستعمليها في ذلك المعنى بمثابة الحل الأمثل الذي يجعله ينقل تلك الصورة التي في مخيلته لمحبوبته. ولأن قاموس المصطلحات الشعبية، أو السوقية كما يسميها البعض مفتوح ومتغير على الدوام، فإن "البومبة" نافستها كلمة أخرى هي "القريفة" التي كانت في بادئ الأمر تطلق على الملابس والثياب من ماركات عالمية مستوردة من الخارج، قبل أن يتحول سياق تلك الكلمة ومدلولها إلى مجال الغراميات، حيث أصبح يقال عن فلانة بأنها بمثابة "قريفة"، أي آخر صيحة. * غرائب الجزائريين في ممارسة الحميميات والتغزل والهيام في العشق والغرام، لم تتوقف عند ذلك الحد، حيث أن كلمة "نموت عليك" الدالة على التعلق بالشيء أو الشخص، وهي الكلمة الشائعة في أوساط الجزائريين من كافة المناطق، ما تزال "قيد الخدمة" رغم مضي عشرات السنين على دخولها قاموس المصطلحات الشعبية المتداولة. * * أفواه تطلق البارود ووجوه تقطر بالسم * * تفنن الجزائريين في ممارسة التشبيه البليغ والمحسنات البديعية "بأبهى أنواعها" في تعاملاتهم اليومية لم يقتصر فقط على الحميميات والأمور الغرامية فحسب، بل تعداه ليطغى على كافة مجالات الحياة، حيث أنه كثيرا ما يحاول الشخص منا أن يصف نفسه بأنه يفي بوعوده ولا يحنث بها، فيقول كلمتي بارود، وهي مصطلح قديم شائع، مصدره و"منبته" بلاد الشاوية، والمقصود منها التدليل على أن الرجل إذا تلفظ وعدا أو قطع على نفسيه وعدا فلن يخذل ولن يتراجع، مثلما لا يمكن لطلقة البارود أن تعود أدراجها نحو الماسورة. * ورغم ما تحمله كلمة بارود من عنف إلا أن استعمالها يبقى مقبولا على عكس كلمات أخرى لا معنى ولا ملة لها، بالنظر للمعنى العام المراد تبليغه من استعمالها وبالنظر لكون الكلمة قد أصبحت من الموروث اللغوي لمنطقة عزيزة على الجزائريين. * ولا تعتبر فئة الرجال هي وحدها فقط المتميزة باستعمال قاموس المفردات الشعبية العنيفة للدلالة على معان مختلفة، بل إن النساء أيضا كثيرا من يستعملن عبارات هي أقرب للعنف مما تعبر عنه من معان عديدة، لكن النسوة في الجزائر يفضلن اختيار كلمات أقل همجية وعنف من الرجال، مثل قول "فلانة يقطر السم من وجهها"، للكناية على أن الموصوفة بذلك المصطلح تحمل من الخبث وقلة الإنسانية ما يشبه السم في قتل الناس. * * مفهوم العنف اللفظي عند أهل علم الاجتماع * * العنف اللفظي كما يعرفه علماء الاجتماع هو استعمال عبارات نابية ومخلة بالآداب والأخلاق الحميدة أو سبّ الذات الإلهية، لكن فريق آخر من المختصين يُعرفه على أنه ترجمة للواقع المعاش في المجتمع، حيث نجد شبابا ورجالنا وحتى نساء وشيوخا وأطفالا يوظفون كلمات وعبارات طبعت ألسنة الجزائريين لدرجة انه قلما توجد من بين العبارات المتلفظ بها كلمة لها أصل أو معنى في اللغة العربية. * هذا التأثير والتأثر بين لسانيات الأفراد والتغيرات الاجتماعية الحاصلة أنتج أمثلة كثيرة لا يمكن حصرها، منها على سبيل المثال استعمال مفردات دالة على الأزمة متعددة الأوجه التي عرفتها البلاد على مدار السنوات الماضية، مثل كلمة "شريكي"، الدالة على طغيان المادة وتفشي ثقافة الرأسمالية المتوحشة في أوساط المجتمع، ومفردة "سبيطار" لوصف شخص ما بالتهور والتسرع والجنون وعدم تقدير العواقب، وغيرها من المصطلحات الجديدة والمستجدة في كل مرة. * الملفت للانتباه في هذه الظاهرة، هو أن التغير الحاصل في المجتمع أنتج لنا في المحصلة ظواهر تدفع هي الأخرى لمزيد من التغيرات فيه، فظاهرة الغناء عن العشق والتغني بالمحبوبة باستعمال الألفاظ البذيئة والكلمات العنيفة جعلت الكثير من المطربين والمغنين الجزائريين، وبالأخص في نوع الراي، يتمكنون من تبوء أولى المراتب وخطف الأضواء، والسبب كان أغان تحمل في كلماتها دعوات للعنف أو مصطلحات تحث على الرذيلة وممارسة الفاحشة بشكل جنوني، وحتى في بعض الأحيان تشجع على قتل الذات بما يشبه ممارسة الطقوس الشيطانية. * ومن ذلك نذكر أغنية "جوزيفين" التي يقول فيها صاحبها "رضا الطلياني" "نحط راسي على الراية"، وهو الأسلوب الجديد الذي رفع مرتبته إلى مصاف نجوم الراي الأوائل من حيث مبيعات أشرطته والطلب عليها. * * مطربون بمرتبة إرهابيين * عندما تغني المطربة اللبنانية ماجدة الرومي "يسمعني حين يراقصني.. كلمات ليست كالكلمات"، فالأكيد أن حبيبها لن يكون أي شخص آخر عدا الشاب خالد الذي يردد في أذني حبيبته "قلبي وقلبك عند البوشي معلقين". ولكن لخالد حاج ابراهيم حبيبة أخرى تعودت على هذا النوع من الغزل الذي فيه الكثير من العنف الدال على الرومانسية في أقسى درجاتها. وإذا كانت ماجدة عندما تتغزل بعيني حبيبها تقول له "عيناك ليال صيفية ورؤى وقصائد وردية" فإن الشابة يمينة لم تجد من عبارات الغزل إلا قولها "عينيك ياعينيك، عينيك حب رصاص". * وبالرغم مما بلغه الشاب خالد أو "الطالياني" من درجات التطرف في الخيال المستعمل للإبداع في الغناء، فإن "عز الدين الشلفي" يبقى مسيطرا على قمة هذا النوع من الطرب الجنوني، بشكل يجعله مؤهلا لحمل لقب "المغني صاحب الرومنسية الأعنف". فعندما شدا ابن قرية الشقة بالشلف أغنيته "هاكي البيا، تيري عليا وفرغي الشارجور"، وكان يقصد بها المسدس، فإن الأكيد أن الكثيرين ممن كانت كلمات تلك الأغنية تطربهم وتجعلهم يتمايلون ويسبحون في خيال مجهول، كانوا يفتشون في مخيالهم عن طريقة تجعلهم يتشبهون ببطل القصة التي يحكيها "الشاب عز الدين" في أغنيته. *