''الماصو''.. ''البناء'' أو ''الزوفري''..مداخيل الوزراء وصناع القرار.. أجندة مالية تضاهي تطلعات رجال الأعمال.. مصاريف الأغنياء وادخار الفقراء..؟ مفارقات عجيبة اجتمعت لدى هذه الشريحة التي تمثل أزيد من 50 بالمائة من اليد العاملة في الجزائر، يواجهون الخطر دون تأمين، لا حق لهم في القروض السكنية، لا حديث عن مشاريع مستقبلية تخصهم على طاولة الحكومة.. معاناة الزوافرة إلى أين؟! خرجت مؤخرا، مئات النقابات العمالية في جميع قطاعات الدولة، منددين ومطالبين بالزيادات في الأجور، بغية تحسين المستوى المعيشي والقدرة الشرائية، ومست هذه الاحتجاجات كل فئات المجتمع من العامل البسيط إلى الإطارات العليا في الدولة، كل هذا يحدث أمام أنظار الفئة الأكثر حرمانا في المجتمع والمسجلة نظريا تحت اسم ''البطالة''، التي تدخل في طياتها شريحة ''الزوافرة'' العاملين بالسوق السوداء. الزوافرة.. العملاق النائم الذي لا يتأثر بكواليس السياسة تعتبر فئة ''الزوافرة'' بمثابة العملاق النائم في الدولة، وهي التي لا تتأثر بالظروف المحيطة بها، خاصة أمام التطورات والتحسينات التي تشهدها الإدارة الجزائرية والتي لا تخص بأي حال من الأحوال هذه الفئة العاملة تحت غطاء السوق السوداء، سواء تعلق الأمر بالزيادة في الأجور أو تطوير خدمة التأمين وإقرار قروض سكنية، على اعتبار أنه ليس في إمكان الشطر الأكبر منهم استخراج الوثائق المطلوبة من طرف البنوك للاستفادة من خدماتها. ويبقى ''الماصو'' أو ''الزوفري'' الوحيد الذي لا يتأثر بالمضاربات التي يحدثها المستوردون وبائعو المواد الغذائية، إلى جانب كواليس السياسة ودراسة الزيادات في الأجور وتحسين القدرة الشرائية، التي لم يدرج فيها هذا الأخير مطلقا على اعتبار أنه لا يدخل ضمن أي قطاع عمل نظامي، إلا أنه ورغم كل هذا يسعى لتأمين متطلبات عيشه دون اللجوء لما سعت إليه اليوم كل نقابات الوظيف العمومي، ويعتبر رغم حرمانه من كثير من الضروريات أحسن حالا باعتراف الكثيرين ممن خاضوا هذه المغامرة.ويتخذ كثير من الشباب البطال ذوي المستويات المعيشية الضعيفة هذا الميدان كخطوة أولى في بناء المستقبل يقول كريم، فبالنظر إلى الأرباح التي يمكن تحصيلها في ظرف قياسي لمن ساعفه الحظ، جعل الكثيرين يحطون الرحال عنده كأولى محطات بناء المستقبل على أمل الخروج منه برأس مال يمكنه من الخوض في مشاريع أخرى، إذ يكون هذا النوع من ''الزوافرة'' قد سطر لنفسه هدفا آخر بناء على نجاح خطوته الأولى في تحصيل رأس المال. ''الماصو''.. لو يستقر عمله فسيكون وزيرا من دون حقيبة دبلوماسية تفوق مصاريف أي بناء ''زوفري'' يعيش بعيدا عن عائلته الأجر القاعدي المحدد من طرف الحكومة بمرتين على الأقل، لأنه مجبر أولا على الإنفاق على العائلة التي خلفها وراءه والتي تضم طلبة وتلاميذ وحتى رضع، في حين ينبغي عليه وضع ميزانية خاصة بمصروفه اليومي بداية من الإيواء إلى النقل والغذاء، إذ يقول سليم من هذه الناحية بأن ''الماصو'' ليست له ميزانية محددة وتزيد احتياجاته كلما زاد دخله. ويقول ''سفيان'' في هذا الصدد، أن مداخيل ''الماصو'' الذي يشتغل بدرجة خاصة في تركيب البلاط بشتى أنواعه في البيوت تسيل لعاب أي موظف آخر في أي قطاع كان، لأن عمل يوم كامل في تركيب مادة الرخام قد تذر عليه قرابة مليوني سنتيم، في حين يناهز المدخول اليومي لمركب مادة ''الفايونس'' و''لادال دوصول'' المليون سنتيم، المداخيل التي جعلت أي بناء لا يستبدل مهنته ربما بوظيفة حارس ليلي وما شابه.وما زاد من حب أصحاب هذه المهنة لوظيفتهم رغم المخاطر التي يواجهونها يقول ''سفيان''، هي الحرية المطلقة التي يتمتع بها ''الماصو'' على خلاف باقي موظفي القطاعات الأخرى، فهو سيد نفسه لأنه يحدد عطلته في التاريخ الذي يناسبه ويلتحق بالعائلة في الوقت الذي يريده، ولا أحد يلزمه على العمل في يوم دون آخر، كما لا توجد أية قوة ضاغطة يمكنها تقييده عدا قاعدة العرض والطلب، ''وفرة العمل وقلة العمال أو العكس''. تقارب في المداخيل.. وهوة ساحقة في المكانة.. لماذا ؟ ومن الأسباب التي صنعت الفارق بين إطارات الدولة وهذه الشريحة رغم التقارب الكبير في المداخيل، يقول ''جمال'' بأن التهميش الإداري هو السبب الرئيسي لأن تصنيف عمل البناء غير المصرح به في خانة السوق السوداء، زاد من معاناته واستمرار في هضم حقوقه رغم أن الأمر خارج عن نطاقه، فإن 90 بالمائة من المصاريف التي تكون على عاتق البناء ''الزوفري'' هي بمثابة ادخار بالنسبة لموظفي باقي القطاعات.إن توفير الإقامة والنقل والتأمين وتخصيص مبالغ مالية للزوجة والأولاد القصر في الراتب الشهري للعامل، يجعله يدخر كل هذه المنح والعلاوات في الوقت الذي تقتطع كلها من مداخيل ''الماصو''، أما بالنسبة للعطل الموسمية والسنوية التي تمنح للموظف وتكون مدفوعة الأجر، فإنها تكون هي الأخرى على عاتق ما يجنيه ''البناء'' من عرق جبينه، وهو الأمر الذي يصنع الفارق بين الشريحيتين، فالموظف العادي يأخذ مرتبه كاملا لا ينقص منه شيء طيلة 365 يوم في السنة، أما البناء أو ''الزوفري'' فلا تصل نسبة عمله إلى 50 في المائة من عدد أيام السنة. وزيادة على كل هذه المفارقات التي تعكس حجم التهميش الذي تعيشه هذه الفئة، نجد بأن مناصب الإطارات تمنح في حد ذاتها الهبة والوقار ما يجعلها مكسبا في حد ذاتها لأصحابها بمفهوم الواقع الذي نعيشه، فإن الوزير في مكانته يفوز بالعديد من المزايا التي يخصه بها المجتمع والتي تدخل كلها في إطار الإدخار الشخصي له، كما يمكنه قضاء أي حاجة من حوائجه دون دفع دينار واحد.وهو ذات الشأن بالنسبة لباقي إطارات المؤسسات الكبرى وحتى الهيئات الإدارية المحلية التي تجعلهم مكانتهم أولي فضل في أعين الآخرين، الشيء الذي يجعلهم يسارعون لقضاء حوائجهم، عسى الاستفادة من بعض رضاهم والتقرب منهم، وهو الشيء الذي يفتقده ''الزوفري'' رغم أن مداخيله قد تفوق بكثير الراتب الشهري لموظف داخل إدارة محلية، إلا أن ادخار هذا الأخير لا يقارن بادخار البناء. ''الزوافرة'' بين.. المعاناة الاجتماعية، التهميش الإداري والتشبع المادي! معاناتنا تتمثل في التهميش الإداري والاجتماعي وليست في الجوانب المادية يقول ''عيسى''، ''لا يوجد أي مسؤول أظهر ولو التفاتة صغيرة لهذه الفئة التي تساهم بدرجة كبيرة في بناء الجزائر، كما أنه لم يتم الحديث مطلقا على مستقبل هذه الشريحة التي تضم شبابا وأرباب أسر، وكما أن عمال جل القطاعات لهم حقوق وواجبات يدافعون عنها فلِم لا تكون لدينا نحن حقوق نطمح إليها أبسطها تسوية وضعية التأمين''.وأضاف ''عيسى''، ''راح كثيرون ضحايا هذه المهنة الوحيدة التي تكفل لقمة العيش للبسطاء، فلا تتطلب سجلا تجاريا ولا وثائق تعجيزية ولا حتى خبرة ميدانية، وهو الأمر الذي جعلها وجهة كل طالبي العيش الكريم، كما أنها من ناحية أخرى فرصة الثراء للبعض الآخر، وهذا بعيدا عن مضايقات الإدارة، فلا ضرائب ولا تأمين للعمال وكل هذا في خزينة المقاولين المبتدئين على حساب العامل البسيط.إن سلامة وصحة ''الزوفري'' الذي يشتغل في مجال البناء معرضة في أي لحظة للخطر، بداية من الآلات التي يستخدمها والتي حصدت أرواح الكثيرين زيادة على الإعاقات المزمنة التي لحقت بالبعض الآخر، ومن جهة أخرى انعدام اللوازم الحديثة في العمل مقارنة بأصحاب الشركات الكبرى، فمن يرى البناء معلقا فوق خشبتين على واجهة العمارات الشاهقة يدرك خطورة العمل الذي يزاوله هذا الأخير دون أية ضمانات تذكر.ويتساءل بعد ذلك الكثيرون أولهم صاحب العمل عن وجهة هذه الأموال التي يجنيها البناء، ومنهم المسؤولين ربما وحتى إطارات القطاع، إلا أن من يفكر من هذا المنطلق يكون قد نسي بأن عمل البناء مرهون بوفرة العمل، فإن اشتغل هذا الشهر فربما لن يعمل لشهرين مقبلين أو أكثر، دون نسيان مصاريف الدواء، فنحن الفئة الوحيدة التي ليس لها الحق في التعويض''. لماذا لا تسعى الدولة لتسهيل ''صيغة'' تسوية وضعيتنا تجاه صندوق الضمان الإجتماعي؟ يسعى معظم ''الزوافرة'' العاملين في قطاع البناء إلى أن تكون لهم شهادات تأمين على غرار عمال باقي القطاعات الأخرى، وبما أنهم يشتغلون بطريقة غير نظامية تدخل في إطار السوق السوداء، أشار كثيرون إلى إمكانية تدخل الدولة للحد من هذا الاستغلال حتى لو كان ذلك بإيجاد صيغة سهلة تمكن الجميع من تسوية وضعياتهم، من خلال تسديد مستحقات التأمين شهريا وفق الأجر القاعدي المحدد من طرف الحكومة.ويرى ''الزوافرة'' أن هذا حل جيد إذا تم العمل به وتسهيل صيغته، بحيث يتم عن طريق تكوين ملف لكل عامل، مع تسديد مستحقات التأمين عند كل شهر، إذ يرون أن عمل ''الماصو'' ليس متواصلا إلا أنه في الإمكان العمل بهذه الطريقة، التي ستضمن لهم صيغة معترف بها لدى البنوك وكذا عند صندوق الضمان الاجتماعي فيكون لهم الحق في تعويض مصاريف الدواء.وزيادة على ذلك يرى كل من تحدثت إليهم ''النهار'' أن العمل بهذا المنطلق يكفل حقوق البناء، سواء في التقاعد أو في حالة تعرضه لإي خطر أثناء مزاولة عمله شأنه شأن كل موظفي القطاعات الأخرى، ومن ثم ستكون هذه المهنة ورغم أنها تدخل في مصف السوق السوداء إلا أن تسوية وضعية العمال سيجعلها أكثر تنظيما وحفظا للحقوق. هكذا يرى كمال حياة ''الماصو'' و''المونوفري'' في الجزائر واعتبر من جهة أخرى ''كمال''، بأن المشاكل التي يتخبط فيها الماصو عديدة ومتنوعة أبرزها مسألة التأمين، التي قال بأنه من غير المعقول لمن يخاطر بنفسه في عمل كهذا أن لا تكون له ضمانات لحماية نفسه، كما أشار إلى قضية التهميش والحقرة التي يعاني منها ''الماصو'' سواء من جانب المقاولين أو أصحاب المنازل، بحيث لا يتم توفير أدنى ظروف العامل المحترم على غرار المسكن.ورجع ''كمال'' إلى المبالغ المالية الزهيدة التي يتلقاها البناء مقابل عمله اليومي والمقدرة ب700 دينار بالنسبة لمساعد ''الماصو'' أو ''المونوفري''، في الوقت الذي تكون حصيلة ''الماصو'' وفق المجهودات التي بذلها وقد تصل إلى 10 آلاف دينار في اليوم، حيث قال بأنها لا تكفي حتى لتوفير المأكل والمسكن الكريم، الذي يكفل له متابعة العمل خلال الأيام والأشهر المقبلة.وذهب ذات المتحدث إلى استنكار نظرة باقي فئات الشعب لهذه الفئة العاملة في مجال البناء، والتي قال بأنه ينظر إليها على أساس أنها لا تملك أي مستوى علمي أو ثقافي يصنع لها مكانة بين المثقفين، مشيرا إلى أنه في ثنايا هذه الشريحة خريجي الجامعات، المجاهدين وأبناء الشهداء الذين ضاعت حقوقهم، ووجه في الأخير رسالة لكل من يرى فيهم نظرة الإحتقار لهؤلاء أن يحترموا العامل مهما كان عمله لأنه آثر الرزق الحلال على غيره.