اشتغل الفنان التشكيلي البارز محمد فركوس, على فكرة "تنظيم اللامنتظم", التي يمنحها مفهومها كفكرة فلسفية يسعى من خلالها لعصرنة التراث اعتمادا على موروث التاريخ العربي الإسلامي, ويبرز في هذه المقابلة التي خصبها "السلام" اهتمامه بإبداع أشكال تعبيرية جديدة, وتحقيق تلاقح فني عربي.
الفنان المخضرم محمد فركوس أهلا وسهلا بك في ضيافة "السلام", هل لكم أن تقدموا أنفسكم للقراء؟ شكرا لجريدتنا الغرّاء "السلام" على هذه الاستضافة, أنا فنان تشكيلي معاصر بدأت تجربتي منذ ربع قرن, وكنت منذ طفولتي أهوى الفنون بصفة عامة, حيث عشقت الأدب على نحو خاص من قصة ورواية وشعر, بيد أنّ هوسي بالريشة جعلني أبتعد عن إنتاج الشعر, قبل أن أنتقل إلى المعهد العالي للفنون الدرامية ببرج الكيفان وأتخرّج منه العام 1979, وأشير هنا إلى أنّ دراستي بهذا المعهد في تخصص الاتصال, مكنتني من الخوض في جميع أنواع الفنون, واكتشفت نفسي في ميدان الفن التشكيلي, وبدأت في مناغاة الريشة ببعض المحاولات, وسرعان ما تيقنت أنّ هذا الفن هو الميدان الذي يستحق أن أكرّس له حياتي, ومنذ ذاك الحين وأنا أمارس التشكيل في ورشة خاصة بمسقط رأسي بمدينة العلمة, بالتزامن مع تدريسي مادة التربية الفنية على مدار ثلاثة عقود . ماذا عن المراحل التي قطعتموها في مساركم الطويل؟ شرعت في بداياتي بأن استوحيت مجمل تعاليم وتجليات المدارس الفنية الحديثة, من الانطباعية والتعبيرية, بحيث اعتمدت على النظرة الفنية المعتمدة على الواقع, لكنها تبرز من ذاك الواقع أشكالا تعبيرية جديدة, لأتحول إلى فنان تجريدي بأتم معنى الكلمة, حيث وجدت تجربة خاصة بي تشتهر بتسمية "تنظيم اللامنتظم". ما معنى فكرة "تنظيم اللامنتظم", وأي السياقات تندرج فيها؟ هي في الحقيقة فكرة فلسفية, الهدف منها تحديث التراث, حيث اكتشفت من خلال مطالعاتي للتاريخ العربي الإسلامي "الأرابيسك" اعتماده على التكرار والتناغم والمساحات الهندسية المتكررة, وهذا نابع من فلسفة قديمة تعبّر عن كون العالم ثابت ومتكرر وخاضع لنمطية, بينما في اعتقادي وفلسفتي أنّ هذا العالم متحرك ومتطور, ويستطيع الإنسان أن يحاوره ويبدّله ويطورّه, لذا كسّرت ذاك الروتين الذي كان يلقي بظلاله على الأشكال, وسعيت لتحطيم كل القوالب الجاهزة, وأعدت البناء من جديد في شكل تناغمات حرة بين الألوان والأشكال في حلة معاصرة, وتتميز تجربتي بكوني أخذت الفن التجريدي لبول كيلي وكاندانسكي, لكني استلهمت على نحو رئيس ينابيع تراث الفن العربي الإسلامي والتراث الجزائري المحلي عبر التاريخ من الطاسيلي, القبائل, الشاوية, ميزاب.. إضافة إلى تأثيرات الطبيعة والألوان والشمس الجزائرية الفريدة من نوعها, وكذا أسس وتمظهرات الحياة الاجتماعية وتطوراتها فيوطننا, وحاولت بطريقتي الخاصة إبرازها في لوحاتي, من خلال ثلاثة مراحل عبّرت عنها, وهي, المرحلة الأولى التي قمت فيها باختصار عدة مدارس من الفن الحديث في تعبير حر منها الواقعية والتعبيرية وخاصة الانطباعية, حيث كانت المزهرية مثلا بالنسبة إليّ شكلا واقعيا, أستطيع أن أركّب عليه مجموعة من الألوان تمثل الإبداع في عمق تعبيرها, وقد لا تتطابق مع الألوان والشكل الواقعيين, بينما قد لا يصبح البحر والقارب والجبال عناصر أخرى دون تفاصيلها الأصلية, بل تترك المجال إلى ما فوقها للتعبير الحر وتحقيق الانسجام الذي يحرّك في الاحساس الطابع النفسي العميق للوعي المبني على الخيال والحرية والشجاعة في التمثيل الذاتي. أما الثانية فتعتبر مرحلة تأسيسية, حيث كانت أعمق من ناحية وضوح التجربة الفنية وذلك بتعميق التعبير بواسطة إدخال عناصر جديدة غير الشكل واللون حيث تمّ إبعاد الأشكال الواقعية, تاركة المجال إلى التجريد الشكلي والألوان والخطوط والحركة في اللوحة, وهذه العناصر هي التي اعتمد عليها فنانون تجريديون مثل كاندانسكي وكيبكاودولوني, وكذلك بول كلي, أما فيما يخصني فعبرت بطريقة تجريدية مغايرة, حيث فتحت المجال التجريدي المعاصر إلى عناصر تجريدية قديمة وظفت خاصة في الأرابيسك الذي يعتبر أول من توصل إلى الاحساس الأساسي للتناسق الداخلي بمعنى التجريد الجمالي المطلق بواسطة التكرار والتناظر والتقابل, وما عملته هو أنني فككت هذه العناصر, ونزعت عنها الترداد والتشابه والروتين في التعامل مع المساحات اللونية وحولتها الى مساحات مشكلة بحرية زخرفية تنطلق في مجال التعبير المفتوح مع المحافظة على الروح الداخلية للتعبير, وذلك بتوزيعها بطريقة هرمونية على اللوحة من حيث الألوان والأشكال, وبهذا تلتقي مع عناصر التجريد الحديث في الفن بالأصالة في التوزيع والتناسق الداخلي, وإضافة إلى ذلك, أدخلت عناصر الحضارة الرومانية المتمثلة في الفسيفساء حيث استفدت من الخط الفاصل بين المساحات وجعلته في أعمالي يبرز المساحات الملونة بما يؤكد على ألوانها ويبعث فيها الحدة والبروز في اللوحة بالقدر المرغوب فيه, وهذه الطريقة عملت على جعل الفن التجريدي أكثر غنى من ناحية العناصر وفتحت مجال الإبداع والتخيل الفني, كما أعتقد بأننا بهذه الطريقة نستفيد من عناصر الحضارات القديمة, لأنني أؤمن بأنّ الفن الحديث يجب أن يكون مثقفا بمعنى يستفيد بالحد الأقصى من أنواع وأشكال التعبير القديمة والحديثة, وكذلك عناصر الأقليات في جميع أنحاء المعمورة مما يفيد الإنسان وثقافته البصرية, وبالتالي يصبح أكثر انسانية وأكثر إحساسا بتفاصيلها وشموليتها. وفي المرحلة الثالثة عملت على إضافة عناصر أخرى للمرحلة السابقة, حيث بحثت ووصفت رموزا من التراث الجزائري القديم "الطاسيلي", ورموز التراث الشعبي الموجودة على مستوى الجهات المختلفة كالقبائل والشاوية وميزاب وخاصة تلك المستعملة في الزرابي الشعبيةّ, مع العلم أني لم آخذها كما هي, ولكنني جعلت هذه الأشكال متحرّكة في اللوحة, وتوحي بالأشخاص والجماعات الانسانية التي قد تدل على معاناة معينة, وقد تأخذ لها تموجات في عدة خلفيات للعمل أو في شكل واحد يحتوي على التفاصيل الموحية التي تتواصل مع خلفية أعمالي. هل تنوون بلورة فكرة "تنظيم اللامنتظم", وهل هناك تصورّ للتلاقح ومنح هذه الفكرة امتدادات عربية ودولية؟ طبعا, طالما أنّ فكرتي تأخذ تراثنا الجمعي وتحاول اقتحام العولمة, لأنّ الأخيرة تمارس حاليا من طرف الدول المتطورة مستغلة إمكاناتها الرهيبة, ووضعها الفنان في الصدارة والواجهة, لتمرير خطاباتها فقط, بينما محاولتي البسيطة بادرة لتصدير تراثنا وحضارتنا وخلق لغة حديثة معبّرة عن ذاتيتنا حتى لا ننسلخ تماما ونذوب في خضم العولمة وطريقتهم في الحياة, لأنّ هذا العالم غني بجميع الناس وليس مقصورا على الثقافة الغربية. المشكلة في الإمكانات التي تظلّ ضعيفة جدا, خاصة وأنّ السلطات قليلة الفهم للفنانين, لكننا نتمنى أن نلقى الناس التي تفهمنا, لا سيما الصحافة التي من شأنها مساعدة الفنانين على الانتشار وتوصيف الأفكار والنظرات للفن والحياة, وتطويرها في صالح الإبداع والإنسانية. عودة إلى بداياتكم, تردّد أنكم خضتم في مملكة الشعر, هل ما زلتم كذلك أم انغمستم تماما في بحور الريشة والألوان؟ في الحقيقة كتبت محاولات في أشياء ذاتية, وما زلت أقرأ لجميع الشعراء المعاصرين بدءا من الراحل محمود درويش, وصولا إلى معين بسيسو, أدونيس, السيّاب, الفيتوري وغيرهم, أتمتع بعيون الأدب والنقد المعاصر عبر مطالعات شملت 30 ألف كتاب, وأحاول أن أرقى بالفن التشكيلي إلى مستوى ما وصل إليه فرسان الكلمة في مجال التعبير والانتشار. بالنسبة لأعمالكم, ما هي المعارض التي نشطتموها داخل وخارج الوطن؟ المشكلة تكمن في افتقاد الجزائر لقنوات مختصة تبث الأعمال الفنية بطريقة احترافية ومنظمة, ولكن بجهود شخصية.. واظبت على مدار ال25 سنة المنقضية على إقامة عشرات المعارض في جهات الجزائر الأربع لإبراز أكثر من أربعمئة عمل في رصيدي أذكر منها: الإنسان والأرض – تأملات ملوّنة – حوار الربيع – أسفار حالمة – حديث مع الحروف – تقاسيم فضائية – تبادلات على سطح البحر – الانسان والعنكبوت وغيرها. المعضلة أنّ قاعات العرض في الجزائر لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة وهو ما لا يساعد الفنان على التواصل مع جماهيره, علما أنّي شاركت في مسابقة دولية باليابان سنة 1997, أين حصلت على جائزة الاستحقاق من بين 17 ألف مشارك, فضلا عن مشاركتي ثلاثة مرات متتالية بصالون الشمال الفرنسي.