شهدت ظاهرة التسول في الجزائر العاصمة استفحالا وتزايدا كبيرين خلال الفترة الأخيرة، حيث يتموقع المتسولون بالشوارع والأماكن العمومية والأسواق الشعبية وغيرها من الساحات، فيما آخرون يتسولون للاغتناء، وتعرف الظاهرة اتساعا مقلقا سيما على مستوى الطرق السريعة في موضة جديدة رافقها تنامي الاعتداءات، ما جعل جمهور السائقين يرفعون أصواتهم مطالبين بتوفير الأمن. في جولة استطلاعية قامت بها جريدة "السلام" للعديد من أحياء العاصمة وضواحيها، حاولنا من خلالها تسليط الضوء على ظاهرة عرفت انتشارا كبيرا خاصة خلال الشهر الفضيل، حيث تحتجز أبواب ومداخل المساجد من طرف متسولين يغتنمون الفرصة للتحرش بالمصلين، إما للاسترزاق أو الربح السريع، وذاك هو حال الأسواق الشعبية، وأبواب المستشفيات والشوارع التي تكثر بها الحركة، مع تركيز غريب على الطرق السريعة. وقال مصدر أمني للسلام شارك في حملات تمشيطية، أنّ النسبة الكبيرة من المتسولين يستعملون أساليب استجداء مصطنعة وغير حقيقية، مثل ادعاء المرض أو الإعاقة، وحمل أوراق مزورة تفيد بإصابة المتسول بأمراض أو مشاكل صحية جسيمة، وكذلك استخدام الأطفال الصغار في محاولة لكسب عطف الناس، وقد تصل في بعض الأحيان إلى تشويه أنفسهم عمداً للحصول على المال. كما أكد مصدرنا أن بعض المتسولين الذي أوقفوا، تبين أنهم من ذوي السوابق، وتبت في حقهم الإدانة، بل كانوا يشكلون خطرا على أمن المواطنين، فقد ضبطت حالات يقوم فيها المتسولون بجرائم مثل السرقة، من خلال مراقبة المناطق التي يقومون بالتسول فيها. وقال أحد المواطنين: "لم يكن أمامي من خيار سوى أن أفتش في جيوبي الخاوية عن بعض القطع النقدية لمدها لسيدة تحمل بين يديها طفلا رضيعا تسألني صدقة لتشتري بها -كما قالت- الدواء لزوجها الذي يعاني من مرض خبيث، أعطيتها قطعتين لم أذكر قيمتهما وفررت من وجهها مذعورا تفاديا للإحراج، ذاك أن بعض المتسولين باتوا يحتقرونك بنظرات مستهزئة إذ لم تمنحهم صدقة معتبرة!". تصريح المواطن المذكور يحيل على البعد الذي أخذته ظاهرة التسول في المدينة الأولى للبلاد، حيث صارت الممارسة عادية بعض الشيء، لكنها صارت جد مقلقة، حيث ينتشر المتسولون في عدة فضاءات بشكل كبير وملفت للانتباه، والأمر يبرز عبر سائر أرجاء العاصمة. ويصطدم المتجول بأعداد هائلة من المتسولين الذين ينتشرون في كل مكان، في الشوارع الرئيسية والأزقة، في الحدائق والساحات العمومية، عند إشارات المرور وفي مفترقات الطرق، وبوسط طريق المدينة عند ازدحام السيارات، في الأسواق الشعبية والمقاهي، في مواقف السيارات ومحطات المسافرين، وحتى أمام مراكز البريد والبنوك، وعند أبواب المساجد والمقابر. في كل هذه الأماكن، يستوقفك متسولون من الجنسين، ومن مختلف الفئات العمرية، أطفال، نساء، رجال، شيوخ وعجائز، وحتى الفتيات الشابات أصبحن يمتهن هذه المهنة بكثرة، والعديد منهن يعملن بالتنسيق مع شباب منحرفين يضمنون لهن الحماية نظير مقابل مادي أو جنسي. وعموما فإن الظاهرة استفحلت بشكل لافت للانتباه في العاصمة وباقي الضواحي المجاورة، وفاقت كل الحدود بحسب جنس المتسول، فبعدما كانت في وقت سابق مقتصرة على النساء والأطفال دون الرجال، أصبحت اليوم هذه الفئة أيضا أكثر ممارسة لهذا النشاط، وازداد التسول استفحالا بكافة أحياء العاصمة، إذ ما أن تأخذ مكانك على الحافلة حتى يصعد المتسولون أفواجا تختلف أعمارهم، نساء يدعون أنهم يعولون أطفالا يتامى، ورجال يستعطفون الناس بإبراز عاهاتهم، أو مرددين لازمة "صدقة الله يرحم الوالدين". المساجد والأسواق الشعبية.. وجهة مفضلة للمتسولين إنّ ما يشد انتباهك هو تمركز المتسولين أمام أبواب المساجد التي تكتظ بالمصلين، منذ صلاة الفجر وإلى نهاية صلاة العشاء، وتعتبر مساجد الرحمة، بن باديس وكتشاوة الأكثر استقطابا للمتسولين باعتبارها من أكبر المساجد في العاصمة، ويتوافد عليها عدد هائل من المصلين من مختلف أحياء المنطقة، وإلى جانب ذلك، يستهدف المتسولون، أيضا، الأسواق الشعبية لكونها الأماكن التي يكثر عليها إقبال وتوافد المواطنين، وتجد أبواب المساجد ومداخل الأسواق الشعبية والمستشفيات "محجوزة" من طرف أشخاص متسولون، وهناك من بات يكتري مكانه لمتسول آخر إذا تغيّب. ولا يكاد يخلو أي مكان من قوافل المتسولين، حتى أصبح البعض يعتبره مصدرا للرزق الوافر، وبعباراتهم التي تهز القلوب وبهندامهم الرث وأحيانا بأطفالهم الرضع اللذين يحملونهم، يكون المواطن مجبرا أحيانا على التصدق بعد وابل من الأدعية وعبارات الاستعطاف والترجي، فالتسول يلجأ إليه البعض لمن لا معيل له، خاصة إذا لم يجد الشخص ما يقدمه لعائلته وأولاده، فيلجأ إلى "الطلبة" لإعالة عائلته. ارتفاع الأسعار والفقر.. أهم أسباب التسول متسولو العاصمة القادمين من مختلف مناطق التراب الوطني باتوا أكثر حذرا من الصحافة، بحيث يصعب أخذ تصريح منهم إذا ما تعرفوا على هويتك الصحفية، لكننا ملنا إلى الحيلة لطرح أسئلة على عدد من المتسولين لمعرفة الأسباب التي دعتهم إلى احتراف التسول خلال هذا الشهر، فأجمعت مختلف الآراء التأكيد على أن الفقر يبقى أهم الأسباب التي تدفع إلى امتهان التسول. ولكونهم يعجزون، كما يقولون، على تلبية حاجيات العائلة من متطلبات مختلف المواد الغذائية، وصرح البعض منهم أن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشونها هي التي جعلتهم يتسولون، خصوصا في ظل تردي الوضع المعيشي والارتفاع الفاحش لأسعار المواد الغذائية، حيث يعجز المواطن، حسبهم، عن اقتناء أبسط حاجياته، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمواد الغذائية الأساسية كالخضر والفواكه. في هذا الصدد، تقول متسولة في الأربعينيات من العمر: "أنا أرملة، وأم لست بنات وولدين، أنا فقيرة، ولا أجد خيارا آخرا غير التسول للحصول على المال والإنفاق على أبنائي وبناتي، حيث أعجز عن اقتناء أبسط المواد الغذائية". المسؤولية في غياب معيل للأسرة، وتعرضهم لسوء المعاملة في الوسط العائلي، كما كشفت، التصريحات التي استقيناها بأن تزايد أعداد المتسولين يعود إلى المتسولين الموسميين الذين تعودوا التسول. وعلمنا، من مصادر مطلعة بخبايا التسول، أن معظم النساء والفتيات المتسولات، في العاصمة وضواحيها، تستغل من طرف شبكة شباب منحرف ومنظمة تنظيما محكما، تساهم في استفحال وانتشار ممارسة التسول وكسب المال على حسابهن. التسول أصبح احترافيا وفقا لدراسة ميدانية حديثة، فإنّ أحد الأسباب الرئيسية لإنتشار ظاهرة التسول، هو أن المتسول لم يعد لديه مانع من التضحية مقابل هذه المهنة لارتفاع دخله منها. كما أوردت عدة صحف إعلامية واقتصادية أن مهنة التسول صارت جد "مربحة" وتدر على محترفيها دخلا عاليا يمكنهم من بناء بيوت فخمة وشراء سيارات فارهة. وتقول سيدة من المتسولين أن عدد من النساء الذين يمتلكون السيارات باتوا يضيقون علينا ويزاحموننا في أهم الشوارع، وأضافت أنهم يتخذون من هذه المهنة فرصتهم الأبدية لكسب المزيد من الأموال. متسولون يتفنون ويستحدثون تقنيات أصبح المتسولون يبتكرون تقنيات وأدوات للتسول قصد التأثير في نفوس المارة والظفر بعطفهم، فمعظمهم يستخدم عبارات دينية تدعو للمارة، ويعتمد بعض المتسولين، كذلك، على وضع وصفات طبية وعلب الأدوية أمامهم، كما تحمل النساء معهن أطفالا حديثي الولادة، وآخرون يبدون عاهاتهم وإعاقاتهم الجسدية.. وكل هذه الفنيات ترافقها ملامح حزينة وعبارات مؤثرة تصل إلى حد البكاء بالدموع استدرارا لعطف المواطنين وإثارة شفقتهم. ويرى البعض أنّ هناك متسولون بحاجة ماسة لمساعدات نظرا لظروفهم الاجتماعية والاقتصادية المزرية، خصوصا على أعتاب فصل الشتاء حيث يرتفع الاستهلاك وترتفع أسعار كل أنواع المواد الغذائية ارتفاعا محسوسا، بينما أشار البعض الآخر إلى أن هناك من هم ليسوا في حاجة إلى مد أيديهم للتسول، غير أنهم اعتادوا التسول وهم يعتمدون تقنيات معروفة في مجال الخداع والاحتيال. وأشار عدد من المواطنين أنه في ظل العدد الهائل من المتسولين، أصبح من الصعب التمييز بين المتسول المحتاج والمتسول المحتال، مما يدفع بالعديد من المواطنين إلى الامتناع عن دفع صدقة، وفي نفس السياق يقول عمر 32 سنة: "أنا أقدم الصدقة للمتسولين المعوقين فقط، أو الذين أعرفهم من العائلات الفقيرة، لأن هناك الكثير من المتسولين محتالين". ويدعو مراقبون إلى استحداث طرق تقديم الصدقة، وتكثيف المراقبة على الجمعيات المهتمة بتوزيع هبات المواطنين حتى يتم القضاء الجذري على هذه الظاهرة، وتمكين المؤسسات من تدبير الصدقات والهبات بطرق أكثر عقلانية. ويعتبر محمد أنّ التسول ظاهرة معروفة في المجتمعات الإسلامية، حيث يقوم المواطنون بدفع هبات وصدقات، ولهذا السبب يغتنم المتسولون هذا للاسترزاق، خاصة في الأحياء الكبرى التي تشهد تزايد أعداد المتسولين، مضيفا أن هناك فقر يدفع بعدد منهم إلى التسول، دون أن ينفي وجود محتالين يفسدون على المحتاج الحصول على صدقة بعد أن أصبح المواطن لا يعرف من هو الفقير الحقيقي ومن هو المزيف. وقال عبد الرحيم: "لنكن واقعيين إن الفقر والحاجة هما من دفعا بالعديد من الأشخاص إلى مد أيديهم للتصدق عليهم، واعتبر أن استمرار التسول في التزايد يعود إلى عدم تفعيل بنود إستراتيجية القضاء على التسول". بدوره، يرى عبد الحميد أنّ التسول ظاهرة اتسعت رقعتها بصفة خطيرة، لحرص المواطنين على التصدق بكثرة ربحا للأجر والتواب، لكن هذا الأمر استغله بعض الأشخاص لربح المال. إلى ذلك، يطالب مستعملوا الطريق السريع الرابط بين بئر خادم والقبة بالعاصمة بضرورة توفر الأمن عبر هذا الخط، وذلك بسبب إقبال مجموعة من المتسولين على اقتحامه ومباشرة عملية التسول في نية منهم للحصول على مساعدات يسدون بها رمقهم، وتتمثل في بعض النقود من طرف أصحاب المركبات المرتادين لذات الطريق حسب -ما ذكره لنا -المتسولون، الأمر الذي أدى إلى عرقلة المرور من طرف هؤلاء المتسولين غير المبالين بالأخطار المميتة التي قد تنجم عن حوادث المرور.