سألتني المذيعة سؤالا مباغتا: متى نقول أن الثورة المصرية نجحت؟.. أجبت: إذا نجحت في إيجاد بديل ديمقراطي حقيقي للنظام الاستبدادي السابق، بمعني حين نرى الأهداف والشعارات والمطالب التي رفعت يوم 25 يناير 2011 وحتى تنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك يوم 11 فبراير الماضي، قد تحققت في الواقع وشعر بها كل مواطن مصري. لكن المشكلة هي أننا ليس لدينا “سوار الذهب” مصري، وهو نموذج فريد لا نظير له في عالمنا العربي، لأنه عندما اختير رئيساً للمجلس الأعلى العسكري الانتقالي في السودان عام 1985، تعهد بتسليم السلطة للشعب خلال سنة واحدة، وقد أوفى بوعده وأعاد البلاد للنظام الديمقراطي، ولا يسأل بالقطع عما فعله من جاء بعده، أو المسار الذي إنتهى إليه السودان اليوم. أعادت المذيعة السؤال بصيغة أخرى: ماذا تسمي ما نعيشه الآن؟ .. أجبت: في كل الأدبيات عن “الثورة” يوجد فارق أساسي بين “الثورة” و«الحالة الثورية”. واصطلاحا فإن كلمة الثورة تلتقي في كل اللغات الحية عند أصل واحد هو «الدوران». وتعكس هذه الكلمة مفهومين هما: التحرك والثبات، تحرك الشيء من موقع ما والعودة إليه ثانية، أو تحرك الشيء حول محور ثابت. أما تعريف الثورة: هو “تغيير” نظام الحكم العاجز عن تلبية طموحات الشعب، وتنفيذ برنامج من الإنجازات الثورية غير التقليدية، يتغير معها الوضع الراهن إلى وضع آخر جديد في بنيته وقيمه وإيقاعه وآلياته وأهدافه. في المقابل: فإن الحالة الثورية هي حالة “الجيشان الانفعالي الجمعي” التي يتقدم فيها “الوجدان” على “العقل”، وبالتالي تسهل قيادة الجموع الغفيرة من قبل سياسي شعبوي له بعض سمات الكاريزما أو رجل دين ديماجوجي، قد ينحرف بهذه “الحالة الثورية” في مسارات خطرة (ضد الأهداف الأصلية للثورة)، أو يحولها إلي “ثورة مضادة” هدفها الأساسي اقتلاع “الثورة” من جذورها، وهو ما نعيشه في مصر الآن. وحتى لا يكون كلامي مرسلا، فإن أهم مقوم من مقومات ثورة 25 يناير 2011 هو فكرة “التوحيد”، أي توحيد كل مكونات الشعب المصري بأطيافه المختلفة، وأجياله المتعددة وفئاته وطبقاته، وميوله السياسية وانتماءاته العقائدية والدينية واللا دينية أيضا. البدو والريف والحضر، العسكر والمدنيون، والرجال والنساء والشباب والشيوخ، هؤلاء جميعا شكلوا سبيكة مصرية واحدة على مدار 18 يوما يصعب التعرف بدقة على نسب مكوناتها وملامحها المميزة. أما ما نشهده اليوم من “تفتيت” ممنهج و«فصل” متعمد لمكونات السبيكة المصرية الواحدة، أدى إلى الانقسام والتشرذم والفئوية والقبلية، فضلا عن تواصل الأحداث الطائفية (الإجرامية) المتعاقبة، وهو يضرب في العمق الطيب لهذه الثورة وأهدافها النبيلة. فالشعار الذي رفعه المصريون منذ اليوم الأول هو: “الشعب يريد إسقاط النظام”، تحول مع استمرار الحالة الثورية إلي شعار آخر رفعه (الإسلاميون) في ميدان التحرير، هو: “الشعب يريد قوانين الله”، وكأنهم يريدون أن يفرضوا الوصاية الدينية على الشعب المصري كله. والمفارقة هنا: أن التراجع عن الشعار الأثيري للثورة المصرية الذي أبهر العالم وهو:« مدنية مدنية .. سلمية سلمية “، تزامن مع نهاية شعار آخر، هو: “الجيش والشعب .. أيد واحدة” ومطالبة (الإسلاميين) المجلس العسكري بالتخلي عن السلطة للمدنيين، مع التعهد بمنح أعضاءه الحصانة من المساءلة القانونية، كما قال المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية حازم أبو إسماعيل في جمعة استعادة الثورة. حزب “الحرية والعدالة” الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين صعد أيضا من هجومه ضد المجلس العسكري، وقال في بيان له: إن المجلس “يميل لأن يكون طرفاً في العملية السياسية”، محذراً من تورط الجيش “في شأن يؤثر على مكانته العسكرية”. وهو ما أكده، وبصيغة مختلفة الدكتور محمد البرادعي، المرشح المحتمل للرئاسة، حيث انتقد الإدراة الفاشلة للمجلس العسكري في حكم مصر حتى الآن، وميز للمرة الأولى بين: “الثقة الكاملة” في (الجيش المصري) وبين غياب الشفافية الكاملة للمجلس العسكري الحاكم، محذرا من إتخاذ إجراءات مخالفة لإرادة الشعب، كان آخرها قانون الانتخابات الذي أصدره المجلس مؤخرا. رسالة البرادعي في تصوري هي الأقوى منذ قيام الثورة، لأنها تضع أيدينا على أسباب حالة “التمفصل” التي نعيشها، ومعوقات التحول الديمقراطي لمصر، بل إن حالة الارتباك والفوضى سببها إما الاستجابة البطيئة، أو المعالجة الخاطئة للمجلس العسكري الحاكم، بالإضافة إلى التراجع المستمر عن وعوده في معظم قراراته، وعدم إلتزامه بتنفيذ مطالب الشعب المصري التي ثار من أجلها.