إطلالة على كتاب ( في السّيمياء ) للدكتورة وسام قبّاني بداية استوقفني غلاف هذا الكتاب الدّال على أفكار وأشياء ربما يحملها محتوى الكتاب .. تأملت الغلاف ووقفت أستنطق مكنوناته ، وتساءلت مع نفسي لم اختارت الكاتبة صورة الوجهين ؟ وهل هما وجهان حقاً أم وجه واحد ؟ ثم لماذا الألوان المتضادة ؟ والعيون المغمضة ؟ وما قيمة الفتاة التي تكوّن علاقة مع الشّيء المضيء ؟. إنها صورة الغلاف ، لغة في لغة ، لغة تستدعي نقداً فكريا يتنبأ بمحتوى الكتاب قبل تقليب صفحاته .. إنّ رؤيتي للغلاف قد تختلف عن رؤية آخر، فكل يفسّر حسب ما يراه وكل ينظر من زاوية فكره .. خيّل لي أنّ هناك غموضاً في هذا العلم يستوضحه ويضيء جوانبه شيفرات يمتلكها قارئ متمرّس .. ورأيت أنّ الكاتبة تعمدت اختيار مثل تلك الصور المناسبة للموضوع المتحدث عنه ، لتعطي إرهاصات فكرية تستقدم عقل القارئ لتفتح له مجال التحليل والتأويل. وفي رأيي أيضاً أنّ الكتاب يكشف عن أسباب عدة لأشياء مختلفة، ويتفحص المسببات وراء الحقائق ، ويستدعي جوانب الغموض ليكشف عنها . فهل وُفّق رأيي؟. لقد أصبحت سجين صورة ، كما لو كان مثلي سجين عنوان ، فقد رأى السابقون أنّ العنوان شبكة تصطاد القارئ ، وهنا وقعت في شبكة اللوحة الصّورية ، تتابعت أصابعي لفتح أوراق الكتاب ، وقد تبيّن ما قلت ؛ إذ تحلل الكاتبة بأسلوب عميق مواضيع ذات صلة بالأدب العربي، وعرفتُ خلالها أنها كانت تريد كشف الأقنعة التي تحجب الرؤية عن أعين القراء . فإلى أي مدى ناسبت الصورة عنوان الكتاب ؟ أترك الجواب لك أيّها القارئ الكريم بعد أن تقرأ سطوري الآتية التي سأتحدّث فيها أوّلاً عن تعريف السّيمياء، وثانياً عن منهجيّة كتاب ( في السّيمياء ) للدكتورة وسام قبّاني. - تعريف السّيمياء: في تعريف علم السيمياء يقول ابن عربي، السّيمياء: مشتق من السّمة وهي العلامة أي علم العلامات. وقديماً ارتبطت هذه الكلمة بالسّحر والشّعوذة، ففي كتاب ( بحر الجواهر ) : السّيمياء هو علمٌ يكون به تسخير الجن. وقال القرافي في كتابه الفروق : السحر اسم جنس لثلاثة أنواع : النوع الأول ( السيمياء ) وهو عبارة عما يركب من خواص أرضية كدهن خاص أو مائعات خاصة أو كلمات خاصة توجب تخيلات خاصة. ولا شكّ في أنّ كلمة سيمياء خضعت لما نسمّيه بالتّطوّر الدّلاليّ، ففي عصرنا الحالي هناك ما يُدعي بسيمياء الأدب. وسيمياء الأدب : مجالٌ ألسنيّ يعنى بعلم العلامات، ويمكن إجراء تطبيقاتٍ على النّصوص الأدبيّة وفق هذا المنهج، وتقديمه للجمهور لرفع مستوى ذوقه. - إطلالة على كتاب ( في السّيمياء ) : حاولت الكاتبة تقريب علم السّيمياء إلى أذهان الجمهور من خلال مقدّمة عرضت فيها شرحاً وافياً عن ( علم السّيمياء )، ورفدت الشّرحَ ببعض الأمثلة المناسبة، وفيما يلي جزءٌ من مقدّمة الكتاب: ( ... وتنبثق المعالجة النّقديّة في هذا الكتاب من خلال التّركيز على ثلاثة محاور: - الأيقونة ( Icone). - المؤشّر (Index). - الرّمز (Symbole). وثمّة اختلافٌ واضح بين العلامات الثلاث ( الرّمز – الأيقونة – الإشارة ) ينجمُ عن تباين طرائق تشكّلها، ووسائل أدائها الدّلاليّ. فالرّمز إشارة حرفيّة إلى مضمون ما، وتتحكّم بين طرفيه علاقة عشوائيّة عرفيّة غالباً. فعلى سبيل المثال الشّعلة رمز للحريّة، والحمامة رمز للسّلام، والحيّة الملتفّة على عصا رمزٌ للطّبّ والصّيدلة. والرّمز لا يمكن استبداله أو تغيير معطياته، فما اتّفق النّاسُ عليه بوصفه رمزاً لشيء – كالميزان رمز للعدالة – لا يمكن استبداله بأيّ شيء آخر. وأمّا الإشارة فعلامة تفصحُ عن أمرٍ معيّن، والعلاقة التي تحكمها هي علاقة سبب بنتيجة، مثل الدّخان الذي يستحيل دليلاً على وجود النّار، والغروب يشير إلى انقضاء النّهار. ومن مشهور قول الأعراب قديماً: ( البعرة تدلُّ على البعير، والأثرُ يدلُّ على المسير ). وأمّا الأيقونة فهي علامة تدلّ على شيء تجمعه إلى شيء آخر علاقة المماثلة ، فالعلاقة بين طرفيها علاقة مشابهة. من مثل الخرائط والصّور الفوتوغرافيّة والبطاقة الشّخصيّة. فالبطاقة الشّخصيّة أيقونة تتماثل المعلومات المدوّنة فيها مع صفات حاملها. ) وقد قسمت الكاتبة كتابها إلى خمسة فصول وهي كالآتي: - هند في الشّعر العربيّ. - سيمياء اللون الأسود في شعر عنترة العبسيّ. - أربع مرايا لوجه الوطن: قراءة في شعر نزار قبّاني. - إيقاع البياض والسّواد ( جدليّة التّكامل والتّنافر ). - صورة الجنّة في الشّعر الأندلسيّ. وفي هذه الفصول سعت الكاتبة إلى ترسّم خطى السّيميائيّة بما يضمن للعمل الأدبيّ الفرادة والتّميّز. ففي الفصل الأوّل نتعرّف على أسرار اسم ( هند ) ودلائله في ضوء نماذج من الشّعر العربيّ قديمه وحديثه. وذلك من خلال ثلاثة مستويات: المستوى المعجميّ - المستوى السّياقيّ: ( هند المرأة – هند المكان )- المستوى الرّمزيّ. وقد أوردت الكاتبة نماذج ل ( هندات خلدهنّ التاريخ ) مثل هند حِبّة المؤمّل بن أميل المحاربيّ ذلك الشّاعر الذي قتله الوجد، فأصبح مضرب المثل بين العشّاق. ومن شعره: شكوتُ ما بي إلى هندٍ فما اكترثَتْ يا قلبَها أحديدٌ أنتَ أمْ حجَرُ ؟ إذا مرضتُمْ أتيناكُم نعودُكُمُ وتذنبونَ فنأتيكُم ونعتذِرُ وفي الفصل الثاني نتجوّل في شعر عنترة ونتعرّف على أسرار اللون الأسود في شعره، إذ درست الكاتبة حضور اللون الأسود سيميائيّاً في شعر عنترة من خلال مستويين رئيسين، الأوّل: تمجيد العلامة اللونيّة ( السّواد )، والثاني فاعليّة التّضاد اللونيّ: جدليّة البياض والسّواد. وممّا ورد في هذا الفصل ( إنّ ولع عنترة باللون الأسود أمرٌ مقصودٌ مُتعمّد ضاربٌ جذوره في عالم الشّاعر النّفسيّ وفضائه الاجتماعيّ. فعنترة يقف على طرفي نقيض مع مجتمعه الجائر، المجتمع الذي يرفضُ الأسود لوناً وحضوراً، ويخشى سطوة بأسه، وتعاظم خطره. وبقدر ما يسعى المجتمع إلى طمس معالم هذا اللون وإخفاء ملامحه يناضلُ عنترة بشراسة ليُضفي على هذا اللون حلّةً من القداسة والبهاء. فعنترة أسود اللون، لكنّه قويّ، وهذه القوّة تتسرّب إلى كلّ فضاءات اللون الأسود... يقول عنترة: لئِن أكُ أسوداً فالمسكُ لَوْني وَ مَا لِسوَادِ جِلدي منْ دَواءِ ولكن تَبعُدُ الفحشاءُ عني كبعدِ الأرض عن جوِّ السماءِ ) وفي الفصل الثالث الذي جاء معنوناً ب أربع مرايا لوجه الوطن ( قراءة في أدب نزار قبّاني ). تناولت الكاتبة صورة الوطن في شعر نزار قبّاني وفق مستويين: رمزيّ وسياقيّ. ومن القضايا المهمّة التي ناقشتها الكاتبة في هذا الفصل قضيّة التّشابه بين المرأة والوطن، إذ تقول: ( المرأة والوطن وجهان لعملة واحدة في شعر نزار، فالمرأة تلكَ السّماءُ الواسعة التي تحملُ الكثير من الأسرار في داخلها، وتُظِلُّ الجميعَ بحنانها المعطاء، فيستشفّ الشّاعر من تضحياتها وحنانها وعطائها حبّاً وشوقاً للوطن. وفي ظلّ ( غربة نزار )، يزداد إيقاع الأنوثة في رسم تفاصيل صورة الوطن، فقد فجّرت الغربة عواطفه، وألهبتْ مشاعرَه، فكان كثيراً ما يتحدّث عن الوطن بصيغة المرأة الفاتنة المفعمة بالحنان والدّفء... يقول: فرشتُ فوقَ ثراكِ الطّاهرِ الهُدبا فيا دمشقُ ... لماذا نبدأ العتبا ؟! أنتِ النساءُ جميعاً ... ما من امرأةٍ أحببتُ بعدكِ ... إلا خِلتُها كذبا ) وفي الفصل الرابع نحلّق في فضاءات اللون سيميائيّاً، حيث اللونان الأبيض والأسود يتناغمان حيناً، ويتنافران حيناً، وذلك وفق الحالة النّفسيّة للشّاعر. وممّا جاء في هذا الفصل في سياق الحديث عن التّنافر بين هذين اللونين: ( يقول الشّاعر عبد الحميد الكاتب وزير مروان بن محمّد آخر خلفاء بني أميّة: رأيتُ الشّيبَ مبتسماً بفودي ففاضتْ أدمعي بدم الفؤادِ ولي خطٌّ وللأيّام خطٌّ وبينهما مخالفةُ المدادِ فأكتبهُ سواداً في بياضٍ وتكتبهُ بياضاً في سوادِ فهنا السّواد القاتم يُشوّه جمال البياض النّاصع، فالشّاعر يُطرّزُ أمانيه البيضاء بمداد الطّموح والأمل، لكنّ صحيفة الدّهر السّوداء تخطّ مستقبله بلون الضّباب، فلا تفسحُ له مجالاً للفرح.) وفي الفصل الخامس والأخير تحدّثت الكاتبة عن صورة (الجنّة في الشّعر الأندلسيّ) في ضوء المستويين الرّمزيّ والسّياقي. وممّا ورد في المستوى الرّمزيّ ( وبما أنّ الجنّة رمزٌ للسّعادة والهناءة، فقد استعار الإنسان رمزيّة الجنّة للحديث عن ( المرأة ) بوصفها أحد أبرز مصادر الهناءة والنّعيم في الحياة الدّنيا. يقول ابن زمرك الغرناطيّ: وأنتَ إلى المشتاق نارٌ وجنّةٌ ببعدكَ يشقى أو بقُربكَ ينعمُ وحال الشّاعر هنا شبيهة بحال سواه من العشّاق، فهو يحلم بجنّة الوصل، ويدرك تماماً أنّها جنّة محفوفة بنار الصّدود. ) واختتمت المؤلّفة كتابها بخاتمة ترصد فيها أهم النّتائج التي توصّل إليها البحث. وشفعتها بفهرس للمصادر والمراجع التي تعنى بميداني البحث أي السّيمياء، والأدب. في ختام هذه المقالة لا بدّ من القول إنّ السّيمياء علمٌ مثيرٌ للجدل والاهتمام، شغل أذهان كثير من النّقاد وعلماء اللغة، وقد جاء كتاب ( في السّيمياء ) مفيداً في مجاله، فهو إجراء علميّ بأسلوب رشيق يزيد ثقافة القارئ العربيّ، ويثري المكتبة العربيّة بما يحتويه من معلومات نظرية وافية عن السّيمياء، ومعلومات تطبيقيّة في مجال الأدب.