مضى أزيد من نصف قرن على انتزاع حق مغتصب ظل مسلوبا بيد الظالمين الذين أتوا من وراء البحار ليسرقوا حق الجزائريين في الحياة، وإلى الآن لا تزال آثار وحشية المستعمر منقوشة على هذه الأرض، لتكون صورة حية للأجيال المتلاحقة من الجزائريين على معاناة جيل التحرير في سبيل استرجاع الوطن.. عبد القادر حمداوي مراكز التعذيب التي بنتها فرنسا الاستعمارية لا تزال في مختلف جهات الوطن تعبر عن وحشية العدو المسلط على الشعب الجزائري، ومن هذه المراكز مركز شرشال، أين انقلب الأمر إلى كبح جماح العمل الثوري عبر الزج بالكثير من المجاهدين في هذا السجن المبني من نوع خاص، حيث يجمع المستعمر فيه الناس وتقيد فيه حرياتهم، ويساقون إليه، باتهامهم بمساعدة الثوار ويتعرضون للعذاب النفسي، ثم تبدأ رحلة عذابهم مع الجلادين، وتنتهي في الغالب بالموت تحت العذاب.. ظهر معتقل شرشال في بداية الصراع بين فرنسا والمواطن الجزائري الذي بات مستهدفا من المستعمر، فليس له حتى الحق في التفكير بالحرية، ولما اشتد دور الثورة بعد اندلاعها في أول نوفمبر 54 وصمدت في الأوراس أكثر من غيرها كان العدو الفرنسي يختار أماكن التجمع والمعتقلات في الأماكن التي لم تمتد إليها يد الثورة وتتمتع بالهدوء والاستقرار ويفضل أن تكون في أماكن نائية وخالية من السكان. فهذا السجن الكئيب الذي تسكنه فيه البرودة القاسية في الشتاء وعذاب المعتقلين وإهانة للمحتشدين على مدار العام، بحيث حرص المستعمر على إحاطته بسياج من الأسلاك الشائكة من جميع الجهات، كما عمد الى زرع الألغام والأضواء الكاشفة حتى لا يفر منها المعتقلون والمحتشدون الآتون من مختلف مناطق الوطن، كما كان ملاصقا لإحدى الثكنات العسكرية.. وفي هذا السياق تؤكد شهادات المجاهدين المنتمين إلى تلك المنطقة أن التعذيب في هذا السجن كان يفوق كل التكهنات، تستعمل فيه أبشع الوسائل، وفي الأخير يكون مصيرهم القتل العمدي أو الموت مباشرة تحت آلات التعذيب والتنكيل.. الكفاح مستمر رغم وحشية التعذيب وبالعودة إلى تاريخ المنطقة والظروف التي أحاطت بظهور هذا المعتقل، فإن الثورة اشتدت بشكل كبير في المنطقة الرابعة في سنة 1955، وهنا عمد المستدمر إلى فتح معتقل جديد للذين جيء بهم من مناطق بعيدة، والذي خصصته فرنسا في البداية لتعذيب السياسيين، فهذا المعتقل أو مركز التجمع أو من الذين قضوا مدتهم في السجن ويمرون بهم عليه تعذيبا وتهديدا وترهيبا وزبانيته أغلبهم من الأسبان لم يسلم من أذاهم أي أحد من المعتقلين وأحيانا يضطر مسئولوهم للقيام بالحيلولة دون التنكيل ببعض الشخصيات خوفا من تسرب الأخبار للصحافة لأن وحشية العدو تفوق الوصف ينتقم بها من المعتقلين والمساجين، فهذا المعتقل أشبه ما يكون بالمحطة للذين يؤتى بهم فالشخصيات الإصلاحية والسياسية قد نقلتهم إليه، كان المعتقلون في البداية يختارون من قبل العدو ومن حامت حوله الشبهة أو خرج من السجن، ولا فرق بين من له ماضٍ سياسي أو غير سياسي فهم جميعا في نظرة العدو يتعاطفون مع الثورة ويجب استئصالهم من المجتمع حتى لا يبقى أي سند تعتمد عليه الثورة. النضال والكفاح داخل المعتقلات، ظل مستمرا رغم كل الظروف القاهرة فالجزائريون لم يستسلموا، فاستغلوا تواجدهم بالمعتقل، من أجل تمرير رسالة الوطن والحرية، فجميع المساجين لهم درجة عالية لم يستكينوا للنوم ولم يستسلموا للراحة ولا الخوف سكن نفوسهم الثائرة على العبودية والاستغلال، بل كانوا يجتمعون في كل معتقل ينزلون فيه ويشرعون في تسجيل من لا يعرف القراءة والكتابة حتى ولو كان مسنا ويصنفون على حسب مستوياتهم ومن ثم يأخذون في إلقاء الدروس ويعلمون جميع اللغات التي يحسنونها ويتقنونها، ونتيجة لهذا المجهود المتواصل هو أن أغلب المعتقلين الذين كانوا أميين حين دخولهم المعتقل أصبحوا بفضل التعليم المستمر يكتبون رسائل لأهاليهم وأن البعض منهم يتمتعون بعزيمة قوية لا تلين .. وفي الطرف الآخر كان الضباط الفرنسيون من جانبهم، يتفنون في تعذيب الجزائريين في هذه المراكز المنتشرة في المنطقة، والمجهزة بأحدث وأبشع وسائل التعذيب، تجاوزت بشاعتها ما استعملته النازية وبالأخص معتقل شرشال، إضافة إلى وجود أماكن للقتل الجماعي في الأودية حيث دفن في بعض الأماكن أكثر من 50 شهيدا، وإذا كانت الإحصائيات تشير إلى أن المنطقة الرابعة بشرشال تحتوي على أكثر من 45 مركزا للتعذيب. وفي 16 أفريل عام 1956 فكر المعتقلون على مستوى هذه النقطة في كيفية تنظيم الخروج والهروب من السجن ويكون ذلك على الساعة الثالثة صباحا، ومهما يكن فإن ما مر بهم من المحن والآلام سيكون حاجزا للخوف من أن يلج نفوسهم، واستطاعوا أن يخرجوا من ظلام المعتقل إلى نور الحرية واستئناف مشوار النضال، وقال لهم سي جلول بلميلود أحد المجاهدين الأبطال: (فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون أن كنتم مؤمنين أن يمسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله). هكذا هرب 18 مناضلا من المعتقل قام المجاهدون بأعمال جليلة وكبيرة بعد صدور الأحكام على بعض المناضلين في زنزانات شرشال وخاصة في تنفيذ الأحكام عليهم، ولكن البعض لم يستسلم للأمر الواقع، فكرامة الجزائري أغلى من كل شيء. أخذ سي جلول بلميلود يفكر في أمر الفرار من السجن ودرس مع رفاقه الذين اختارهم والمخلصين له ودبر الأمر فقبلوا واهتدوا إلى فكرة وليس ذلك بالأمر السهل ولكن إرادة الرجال تقهر الصعوبات وتذللها، وتيسر كل صعب، فتوكلوا على الله ودبروا ونظموا العمل فيما بينهم ليلا وتداولوا على الحراسة واستمر عملهم أياما وأعدوا العدة وأحكموا الخطة للخروج وكانت عيونهم أكثر وعيا من عيون العدو، وفي مساء 16 أفريل 1956 تمكن سي جلول و 18 من رفاقه من مغادرة السجن ليلا وحرروا أنفسهم من عملية عجيبة. وبعد محاولات عديدة استطاع الجميع الخروج بعدما دبروا الأمر والكثير منهم بعد قطع الطريق نحو جبال سيدي سميان وبوحرب ثم قسمت الجماعة إلى ثلاثة أفواج كل فوج اتجه إلى مكان خاص به، اختاروا الوقت المناسب الذي يقع فيه تغير دور الحارس وعندما وصلوا إلى القرى المجاورة لبلدية شرشال اطمأن الجميع، وكان سي جلول هو الذي احتفظ بقوته واستطاع أن يقاوم فكان يجري قليلا إلى الأمام ثم يعود إلى أصحابه ليأخذ بأيديهم، فهو لم يستطع التخلي عنهم لأنه يعرف المنطقة جيدا، وفي النهاية قطعوا المسافة التي كانت تقدر ب 12 كلم، كان الجميع يدور في الشعاب والوديان والربي ولقد أدركهم الإعياء قبل طلوع الفجر وتمزقت أحذيتهم وصار البعض يمشي حفاة الأرجل، فطريق الحرية لم يكن سهلا كما يظن البعض.. حملات تفتيش وقمع واسعة اطمأن الجميع بعد صعودهم إلى الجبل فرعاية الله حلت بهم، رغم أن قوافل الجنود الفرنسية كانت تتحرك مع أزيز الطائرات في السماء ولم ينقشع الضباب إلا بعد الظهر وبقيت هذه الحالة وبعد الحصار للمنطقة من قبل العدو الفرنسي سمع بوفاة المناضل البطل السويداني بوجمعة يوم 17 أفريل 1956 لأنه لم يعرف بخروج المساجين من بلدية شرشال، شهد بوضوح قوافل سيارات العدو تمر دون أن تأتي إلى المكان الذي كان فيه، انتشرت بعد الفرار من السجن، وكانت قوات العدو قد حاصرت المنطقة غربا وشرقا لكن الفارين من السجن بعد منتصف الليل خرجوا وقدموا الأكل لهؤلاء المساجين لأنهم كانوا في القرية، أعدوا لهم الطعام فأكلوا وشربوا القهوة ثم سأل سي جلول من يعرف مكان المجاهدين ليقوم بمهمة الاتصال بالثوار. قام عمي أمحمد في ساعة متأخرة من الليل بسلك طريق للوصول إلى جبل بوحرب وبحث عن مكان يختبئ فيه ذلك اليوم حتى يتصل بالمسئول بعد تكليف المعني بالأمر توجه إليهم مسئول الاتصال، وتعانق الجميع بالفرحة وعين لهم المكان وربط الاتصال بهم وجاء المجاهدون إليهم ثم تم توزيع لهم اللباس والأحذية ووجدوا إخوانهم المجاهدين فكانت ليلة من البهجة والفرح. شن العدو حملات التفتيش والقمع بحثا عنهم وكانوا يجولون ويصولون ودخلوا المنازل بحثا عنهم وانتقل الجميع إلى الجبل وهناك من التقى بأخيه أو جاره أو أهله مع المجاهدين وشرع المسئول في عقد اللقاءات مع المسئولين في جبل بوحرب ولكن البعض استشهد بعد الوشاية من بعض الخونة تم حصارهم من طرف العدو، كما حدث ذلك في ظروف هروبهم وأسبابها، كانت أحداث سي جلول مكثفة ومزدحمة وسريعة، فلم يمض على فراره من السجن وتحرير نفسه ولقد تعرضت المنطقة الرابعة إلى مشاكل كبيرة ومعقدة وعويصة طوال سنوات الثورة. المشاهد تتلاحق تتكدس في الذاكرة والإحساس والشعور تتدافع المشاهد تتوالد من رحم البطولة والتضحية تشعر بالعزة، فالموت من أجل الوطن، من أجل الحرية، من أجل الكل، هناك معركة بين المعركة ونضال حتى الحرية، فهل نحن حقا أحفاد بن مهيدي وبن بولعيد؟ وسي أمحمد بوقرة؟ هل نحن أحفاد أولئك الذين اقتلعوا من جذورهم وظلواا يحملون حلم العودة مع مفاتيح بيوتهم المندثرة.. طائرات ومدافع فرنسا استهدفت الجميع من أبناء الشعب الجزائري، وأظهرت الخيانة لتستفرد برجالها وتقصف الشعب، الجثث تتساقط والأشلاء تتناثر والسكان من القرى موزعين بين الثار والخوف والرعب، هكذا كانت يوميات الجزائريين، بسبب وحشية المستعمر، إلا أن كرامة الجزائري وحبه لأرضه جعلته ينتفض ضد الظلم والظالمين، فذاكرة الوطن لا زالت تحمل بين صفحاتها الكثير من خبايا المعاناة والظلم التي ارتكبت ضد شعب بأكمله لأجيال متلاحقة، فهل ستقف فرنسا للشعب الجزائري يوما، للاعتراف بجرائم الحرب التي مازالت آثارها بادية على هذه الأرض، لتكون خير شاهد على انتهاكات الاستعمار؟