إن رسولنا الأكرم أوصانا أن نُكثِر من ذكر الموت، فقال: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ(1))(2). ولم يحدِّد لنا وِرْدًا معيَّنًا لتذكُّرِه، فلم يقُلْ مثلاً: تذكَّرُوه في كل يوم مرَّة، أو في كل أسبوع مرَّة، أو أكثر من ذلك أو أقل، ولكنه ترك الأمر لنا، نتفاوت فيه حسب درجة إيماننا؛ فبينما لا يتذكر بعضُنا الموت إلا عند رؤية الموتى، أو عيادة المرضى، أو عند المواعظ والدروس، تجد أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول: (إذا أَمْسَيْتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحْتَ فلا تنتظر المساء). وقد قال هذه الكلمات الواعية تعليقًا على حديث الحبيب صلى الله عليه وسلم: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ)(3). وفي إشارة من الرسول الكريم إلى تذكُّر الموت كل يومين قال: (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ). ومن أجل التنبيه المستمر أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعقد لنا مقارنة بين أمل الإنسان في الحياة، وتنوُّع وتشعُّب طموحاته، وبين أجله الذي قدَّره الله له؛ فعن أنس -رضي الله عنه- قال: خطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطوطًا فقال: (هَذَا الأَمَلُ وَهَذَا أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الخَطُّ الأَقْرَبُ)(5). احذر أيها الغافل فالإنسان يحلم ويُخَطِّط، فهذا هو طول الأمل الموجود في فطرته ولا عيب فيه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشَّيْخُ يَكْبَرُ وَيَضْعُفُ جِسْمُهُ، وَقَلْبُهُ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَيْنِ: طُولِ الْعُمُرِ، وَالمَالِ)(6). ولكن ينبغي عليه إلى جانب ذلك أن يتذكَّر أن الموت قريب، فيُحسن العمل، فالموت قريب من الإنسان، وإن لم يَدْرِ به، أو لم يَرَ ملك الموت، بل لو تحصَّن في أمنع الأماكن فسيأتيه الموت، فالله تعالى يقول: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]. والشاعر الشهير كعب بن زهير يقول: كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُه *** يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاء(7) مَحْمُولُ) وهكذا قال أيضًا أبو العتاهية: نَسِيتُ المَوْتَ فِيمَا قَدْ نَسِيتُ *** كَأَنِّي لا أَرَى أَحَدًا يَمُوتُ أَلَيْسَ المَوْتُ غَايَةَ كُلِّ حَيٍّ *** فَمَا لِي لاَ أُبَادِرُ مَا يَفُوتُ(9)؟! وقبلهم فقه الصدِّيق أبو بكر -رضي الله عنه- هذه الحقيقة ووعاها، فكان يقول: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ *** وَالمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ هكذا كان الصحابة يذكرون الموت وقد كان ذكر الموت واستحضاره في نفوسهم دأبَ الصالحين من الصحابة ومَنْ بعدهم، فهذا الصحابي الجليل أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: أضحكني، مؤمِّل دنيا والموتُ يطلبه، وغافل وليس مغفولاً عنه، وضاحك بملء فِيه ولا يدري أأرضى الله أم أسخطه(11). فأبو الدرداء -رضي الله عنه- ينظر بعين البصيرة إلى واقع البشر في الدنيا؛ فهم يطلبون الدنيا بينما الموتُ ساعٍ خلفهم يُوشك أن يقبض أرواحهم. وكان أبو ذرٍّ -رضي الله عنه- يقول: ألا أخبركم بيوم فقري؟ يوم أُوضع في قبري(12). وإذا كان هذا هو يوم فقر الزاهد العابد الصحابي الجليل أبي ذرٍّ الغفاري، الذي لمَّا تباطأت به دابَّتُه وهو سائر إلى غزوة تبوك، تركها وسار على قدميه، فقطع مئات الأميال؛ فكيف يكون بالنسبة للمقصرين؟! وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- إذا رأى أحدًا يحمل جنازة يقول لها: (امضوا، فإنا على الأثر)(13). ليس مثل البعض الذي يتبع الجنائز وهو يُفَكِّر في لذات الدنيا التي تنتظره بعد الفراغ من الجنازة، بل هو مستحضر لحقيقة أننا كلنا ساعون لمصيرنا بين يدي الله تعالى. ومِنْ بعده قال الحسن البصري -رحمه الله-: فضح الموت الدنيا، فلم يترك لذي لُبٍّ فرحًا(14). ولهذا عاش الحسن حزينًا لا يعرف معنى للفرح إلا في الآخرة عند النجاة ودخول الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم. وكان مكحول إذا رأى جنازة يقول: اغدوا فإنا رائحون، موعظة بليغة قليلة، وغفلة شنيعة، يذهب الأول، والآخر لا يعتبر(15). وعلى هذا النهج عاش الربيع بن خثيم رحمه الله، الذي كان يعتبر الموت خير رفيق؛ فيقول: ما غائب ينتظره المؤمن خيرًا له من الموت. وكان يقول: لا تشعروا بي أحدًا، وسُلُّونِي إلى ربي سلاًّ(16). ولهذا كان يُعِدُّ نفسه لرحلة الموت، وكان يصنع صنيعًا ليظل ذاكرًا إياه ولا يغفل عنه؛ فكان قد حفر قبرًا في داره ينام فيه كل يوم ليذكر الموت، وكان يقول: لو فارق ذِكْر الموت قلبي ساعة، لفَسَد(17). وكان محمد بن واسع -رحمه الله- إذا قيل له: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنُّك برجلٍ يرحل في كل يوم إلى الآخرة مرحلة(18)؟! هكذا كان ذكره للموت وإدراكه لحقيقة أنه يقترب منه كل يوم؛ بل كل ساعة، ومَنْ كان هذا فهمه عرفتَ كيف كان يعيش ساعيًا وراء الصالحات والطاعات. ومثله كان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء، فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة، ثم يبكون حتى كأنَّ بين أيديهم جنازة(19). وعندما كان الناس ذوي قلوب منتبهة للموت وقدومه، كان حادث الموت ينزل على قلبهم مزلزلاً؛ فكان الأعمش يقول: كنا نشهد الجنائز ولا نعرف مَنْ يُعَزِّي؛ لأن الحزن قد عمَّ الناس كلهم(20). وكان ثابت البناني يقول: كنا نشهد الجنائز فلا نرى إلا متقنعًا باكيًا(21). وكانت وصية الصالحين دائمًا للمسلمين أن يُكثروا من ذكر الموت؛ فعن عباس بن حمزة قال: دَخَلْتُ على ذي النون المصري وعنده نفرٌ من المريدين وهو يقول لهم: (تَوَسَّدُوا المَوْتَ إِذَا نِمْتُمْ، وَاجْعَلُوهُ نُصْبَ أَعْيُنِكُمْ إِذَا قُمْتُمْ، كونوا كأنكم لا حاجة لكم إلى الدنيا، ولا بُدَّ لكم من الآخرة)(22). وكان الربيع بن خثيم يقول: أكثروا ذكر هذا الموت، الذي لم تذوقوا قبله مثله(23). وكان عون بن عبد الله يقول: كم من مستقبل يومًا لا يستكمله، ومنتظر غدًا لا يبلغه، لو تنظرون إلى الأجل ومسيره، لأبغضتم الأمل وغروره(24). وقال أبو عبد ربه لمكحول: يا أبا عبد الله، أتحب الجنة؟ قال: ومَن لا يحب الجنة؟ قال: فأحب الموت؛ فإنك لن ترى الجنة حتى تموت(25). هذه هي ثمرات ذكر الموت وقد نبَّه الصالحون إلى ثمرات ذكر الموت؛ فقال رجاء بن حيوة: ما أكثر عبد ذكر الموت إلا ترك الحسد والفرح(26). وقال بشر بن الحارث: إذا ذكرتَ الموت، ذهب عنك صفو الدنيا وشهواتها(27). وكذلك قال إبراهيم التيمي: شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله تعالى(28). وقال كعب الأحبار: مَنْ عرف الموت، هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها(29). ولكل ذلك حرص الصحابة على الاتعاظ بالموت، ومحاولة تلافي التقصير في العمل؛ فقد نظر عمرو بن العاص -رضي الله عنه- إلى المقبرة فنزل وصلى ركعتين؛ فقيل له: هذا شيء لم تكن تصنعه؟ فقال: ذكرتُ أهل القبور وما حيل بينهم وبينه، فأحببت أن أتقرَّب إلى الله بهما(30). فهم لم يعتبروا الموت وخشيته معوقًا للإنتاج والعمل، ولم يعتبروه داعيًا إلى ترك السعي وطلب العلم، وإنما فهموه دافعًا إلى السعي والإنتاج حتى يأتي الموت حين يأتي وقد استعدُّوا له، واستكثروا من الحسنات والأعمال الصالحات؛ فقد روى المعافى بن زكريا عن بعض الثقات أنه كان بحضرة أبي جعفر الطبري -رحمه الله- قبل موته، وتوفي بعد ساعة أو أقل منها، فذُكر له عن جعفر بن محمد أنه قال: إذا بلغت البيت الحرام فضع يدك على حائط البيت، ثم قل: يا سابق الفوت وسامع الصوت ويا كاسي العظام لحمًا بعد الموت، ثم ادع بعده بما شئت. فاستدعى محبرة وصحيفةً فكتبه، فقيل له: أفي هذه الحالة؟! فقال: ينبغي للإنسان ألاّ يدع اقتباس العلم حتى الممات(31)!! وعن فرقد (إمام مسجد البصرة) أنهم دخلوا على سفيان الثوري في مرض موته، فحدَّثه رجل بحديثٍ فأعجبه، فضرب سفيان بيده إلى تحت فراشه، فأخرج ألواحًا فكتبه، فقالوا له: على هذه الحال منك؟! فقال: إنه حسن؛ إن بقيت فقد سمعتُ حسنًا، وإن مت فقد كتبت حسنًا(32)!! ويروي القاضي إبراهيم بن الجراح الكوفي موقفًا جميلاً لأستاذه الإمام أبي يوسف القاضي(33)، يقول القاضي إبراهيم: مرض أبو يوسف فأتيتُه أعوده، فوجدته مُغمًى عليه، فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم؛ ما تقول في مسألةٍ؟ قلتُ: في مثل هذه الحالة؟! قال: ولا بأس بذلك؛ ندرس لعله ينجو بها ناجٍ! ثم قال: يا إبراهيم، أيما أفضل في رمي الجمار -أي في مناسك الحج- أن يرميها ماشيًا أو راكبًا؟ قلتُ: راكبًا. قال: أخطأت. قلتُ: ماشيًا. قال: أخطأت. قلتُ: قُلْ فيها، يرضى الله عنك!! قال: أمّا مَنْ كان يُوقَف عنده للدعاء، فالأفضل أن يرميه ماشيًا، وأما ما كان لا يوقَف عنده، فالأفضل أن يرميه راكبًا. قال: ثم قمتُ من عنده، فما بلغت باب الدار حتى سمعتُ الصراخ عليه، وإذا هو قد مات رحمه الله (34)!! ويروي الفقيه أبو الحسن علي بن عيسى: أنه دخل على أبي الريحان البيروني -رحمه الله- وهو في لحظات حياته الأخيرة, وقد حشرجت نفسه، وكادت أن تخرج، فقال البيروني وهو في هذه الحالة من حالات الاحتضار: كيف قلت لي يومًا في مسألة الجِدَّات التي تكون من قِبل الأم؟! يسأله عن مسألة من مسائل الميراث!! فيقول الفقيه أبو الحسن: فقلتُ له إشفاقًا عليه: أفي هذه الحالة؟! قال لي: يا هذا؛ أُوَدِّع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرًا لي من أن أُخلِّيها وأنا جاهل بها(35)؟! فهو يُريد أن يتعلَّم الأمر قبل أن يموت؛ لا لشيءٍ إلا لمجرَّد العلم، وذلك أنه يعلم فضل ومزية تلك المكانة والمنزلة.. فأعاد عليه الفقيه أبو الحسن شرح المسألة وعلَّمه وحفَّظه، ثم قال: (وخرجتُ من عنده، وأنا في الطريق سمعتُ الصراخ)(36)!! لقد مات أبو الريحان البيروني -رحمه الله- بعد دقائق من تعلُّمه المسألة! فالموت بالنسبة له حياة وعمل صالح يستزيد منه لينفعه يوم الحساب