بقلم: بكر صدقي بات اسم حلب، في الآونة الأخيرة، نقطة تقاطع اهتمامات دولية متعددة. فمن تركيا التي حذرت من سقوط المدينة تحت الحصار الكامل للنظام، إلى فرنسا التي تجاوبت مع المخاوف التركية من تدفق مليون ونصف لاجئ إضافي إلى الجارة الشمالية لسوريا، إلى النظام الكيماوي الذي يروج، منذ أشهر، للهدنة و(المصالحة) في عاصمة الشمال التي يطبق عليها الحصار، وصولاً إلى الأممالمتحدة التي تبنى ممثلها ستيفان دي ميستورا تجزئة الحل السياسي جغرافياً وزمنياً، تبدو المدينة المنكوبة وكأنها خرجت من النسيان لتلعب دور الكاشف للمصالح الدولية المتصارعة على أرض سوريا ومن حولها. تماماً كما نجح نظام الكيماوي في (إقناع المجتمع الدولي، أخيراً، بتغيير الأولويات في المشكلة السورية من ثورة حرية وكرامة إلى حرب على الإرهاب، نجح أيضاً في تجيير الأممالمتحدة لخدمة خطته الأمنية المتمثلة في الهدنات المحلية التي عمل عليها طيلة العام الماضي في أكثر من منطقة. وفي غضون ذلك كانت بقايا المجموعات المسلحة المحسوبة على الجيش الحر تتآكل بفعل حرمانها من السلاح والذخيرة، وتعرضها لهجمات ثلاثية من قوات النظام الكيماوي والميليشيات الشيعية المتحالفة معه، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وجبهة النصرة. هذا يفسر ترحيب رأس النظام باقتراح دي ميستورا (الجدير بالدراسة) على قوله. وتعني (الدراسة) هنا تطويق الخطة الأممية بصدد حلب بمجموعة من الشروط التفصيلية بما يجعلها متطابقة تماماً مع احتياجات النظام وأهدافه. أي عملياً تحقيق استسلام كامل للثوار في المناطق الخارجة عن سيطرته داخل المدينة، الأمر الذي فشل عسكرياً في تحقيقه طوال عامين ونيف. أضف إلى ذلك أن قوات النظام والميليشيات الشيعية الحليفة قد أنهكت في الدفاع عن (حلب النظام)، ومن شأن (تجميد القتال) المقترح أن يترك لها فرصةً لالتقاط الأنفاس وربما لتحريك قسم من تلك القوات إلى مناطق أخرى لقتال الجيش الحر فيها. تشير استراتيجية النظام الكيماوي في مواجهة الثورة، عموماً، إلى أنه تعلم الكثير من إسرائيل في مواجهة المقاومة الفلسطينية. يمكن وصف تلك الاستراتيجية باختصار بأنها الاستمرار في الضرب على رأس الخصم حتى يركع ويستسلم، أو ضرب رأس المسمار بالمطرقة إلى النهاية. كم تذكرنا خطة النظام الكيماوي بصدد الهدنات المحلية التي اشتراها منه دي ميستورا وأعاد تقديمها له بصيغة (حلب أولاً) كما لو كانت ابتكاراً يخصه، بتلك الخطة الإسرائيلية سيئة الذكر (غزة) أريحا أولاً التي ما زال الفلسطينيون يدفعون، إلى اليوم، ثمن مقتضياتها. يريد دي ميستورا التسويق لخطته على أنها (مقدمة لحل سياسي شامل) في الوقت الذي انتقل فيه (أصدقاء الشعب السوري) المزعومين من البحث عن حل وسط مع النظام الكيماوي إلى حرب على الإرهاب تكاد تحوِّله إلى حليف في المواجهة المشتركة مع (الدولة الإسلامية). والهدف (النهائي) المعلن، على أي حال، هو الوصول إلى تسوية بين النظام والمعارضة المسلحة، ليتفرغ الطرفان لاحقاً لقتال (داعش)! هذا ما يجمع الأممالمتحدة والإدارة الأمريكيةوروسيا معاً. روسيا التي تريد العودة إلى وليمة لعبة الأمم حول سوريا بعدما استبعدت منها بسبب حربها على أوكرانيا وبسبب دورها في إفشال مؤتمر جنيف2، تطبخ الآن مبادرة سياسية جديدة، حسب ما نقلت بعض وسائل الإعلام، تقوم على اختيار (معارضة سورية مقبولة) من النظام (معاذ الخطيب وقدري جميل وجماعة هيئة التنسيق وبعض المنشقين من الائتلاف المعارض) للجلوس إلى طاولة مفاوضات معه، وصولاً إلى.... تحالف الطرفين ضد داعش! ليست المشكلة إذن في عصابةٍ مسلحة استولت على الدولة السورية منذ خمسين عاماً واستخدمتها في أعمال بلطجة إقليمية، بعدما حبست السوريين في قمقم الاستبداد وحرمتهم من احتمال التحول إلى مجتمع حي، ليست المشكلة إذن في شن العصابة نفسها حربها المدمرة على السوريين منذ قرر هؤلاء الخروج من القمقم والمطالبة بالحرية والكرامة قبل نحو أربع سنوات، ليست المشكلة إذن في أن العصابة استعانت بعصابات شيعية تشبهها من لبنان والعراق وأفغانستان بعدما فشلت لوحدها في القضاء على التمرد الشعبي وباتت مهددة بالسقوط؛ ليست المشكلة إذن في أن ظهيرها الإيراني جعل نار حربه المقدسة في سوريا تمتد إلى الجوار القريب والبعيد وصولاً إلى اليمن... بل المشكلة هي في نظر حلفاء النظام الدوليين وخصومه معاً في (إرهاب) متطابق مع المجموعات الجهادية الإسلامية السنية حصراً دون شقيقاتها الشيعيات. الإعلان الفضائحي لتنظيم (الدولة) عن قيام دولة الخلافة الإسلامية في القرن الواحد والعشرين، وممارساته الهوليوودية في فظاعاتها بحق السكان في المناطق الخاضعة لسيطرته، ساهما بقسط طيب في تغيير أولويات الاهتمامات الدولية من مشكلة العصابة الكيماوية في دمشق إلى حرب جديدة على الإرهاب، بطريقة مشابهة لمساهمة أداء الإخوان المسلمين في مصر، خلال السنة اليتيمة من حكمهم، في تغيير أولويات دول خليجية من الخطر الإيراني إلى الخطر الإخواني، الأمر الذي أراح يد طهران لتصول في الإقليم وتجول على هواها. ما هي حظوظ خطة (حلب أولاً) من النجاح؟ ما دامت الخطة جزءًا من استراتيجية الضرب على رأس المسمار الموصوفة أعلاه، مهما حاول دي ميستورا إخراجها على أنها من بنات أفكاره، فإن نجاحها يتوقف على قبول المجموعات المسلحة المحسوبة على الجيش الحر في حلب المحررة، بالاستسلام لشروط النظام الكيماوي. صدر أول موقف من المجلس العسكري في حلب من الخطة، فوضع شروطاً لا يمكن النظام الكيماوي أن يقبل بها. ولكن إلى أي مدى يستطيع الجيش الحر الصمود في موقفه هذا في وقت تتكالب فيه كل القوى الفاعلة ضده؟ حتى إذا وضعنا جانباً كل تلك القوى، فإن وضع السكان المدنيين العالقين في حصار قاتل، ويتعرضون لحرب البراميل المتفجرة بشكل يومي، سيكون العامل الضاغط الأكثر ثقلاً على قرارات الجيش الحر.