فإن الجملة السابقة التي تحمل العموم في معناها جزء من حديث نبوي شريف، وقبسٌ من وحي معصوم، تكلم به المصطفى صلى الله عليه وسلم لتسترشد به أمته، وتقتبس من نوره. وقد فهم العلماء الراسخون من تلك الجملة النبوية العموم والشمول؛ ومن بينهم إمام المحدثين في عصره؛ ألا وهو الإمام البخاري رحمه الله حيث عقد باباً فسماه: باب الرفق في الأمر كله. وأخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيء إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ . والرفق قد أمرت به الشريعة في غير ما نص؛ فمن تلك النصوص ما رواه البخاري عن عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ قَالَتْ عَائِشَةُ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ قَالَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْلاً يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ. وروى مسلم عَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ . وروى مسلم أيضاً عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاهُ . فهذه النصوص النبوية الصحيحة تدل دلالة واضحة في الأمر بالرفق والإتيان به، وأنه لا يكون في شيء إلا زانه وجمله وحسنه، ولا ينزع من شيء إلا شانه وأنقصه وأفسده. والرفق ضد العنف والشدّة، ويُراد به اليسر في الأُمور والسهولة في التوصل إليها، وأصل الرفق في اللغة هو النفع، يقال: رَفَقَ به، وله، وعليه رِفقاً، ومَرْفِقاً: لأنَ له جانبه وحَسُنَ صنيعه. والرفق هو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل وهو ضد العنف. قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لحديث عائشة المتقدم: والمعنى أنه يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده، وقيل المراد يثيب عليه ما لا يثيب على غيره، والأول أوجه، وله في حديث شريح بن هانئ عنها أن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه، وفي حديث أبي الدرداء: من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير. الحديث. وأخرجه الترمذي وصححه وابن خزيمة. فتح الباري (10 / 449) وقال الحافظ ابن عبد البر: وأما الرفق فمحمود في كل شيء، ما كان في شيء قط إلا زانه، كذلك جاء عن الحكماء. وروى مالك عن الأوزاعي عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يحب الرفق في الأمر كله. التمهيد (24 / 156) قال سفيان الثوري رحمه الله: لا يأمرُ بالمعروف ويَنهى عن المنكرِ إلاّ من كان فيه خصالٌ ثلاثٌ: رفيقٌ بما يأمرُ، رفيقٌ بما ينهى، عدلٌ بما يأمر، عدلٌ بما ينهى، عالمٌ بما يأمر، عالم بما ينهى. الورع للإمام أحمد: 166 ..