* الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس في زمانٍ أجدبَت فيه كثيرٌ من المشاعِر، حتى غدَت هشيمًا يذرُوه الرياح، وصوَّحَت الجُسُومُ من جواهِرِها الرَّأفة، فآضَت هياكِلَ كالأشباح، بعد أن برأَها الباري جلَّ في عُلاه موئِلاً لزكِيِّ الطِّباع، ومنهَلاً للبرِّ المُشاع، والإخاء المُتقارَضِ النفَّاع. تبرُزُ قضيةٌ مُقِضَّة، ترزَحُ تحت مُرهَفِها كثيرٌ من الأُسَر والبُيُوتات، وتزيدُ آلامُها وحسراتُها داخلَ الغُرَف والحُجُرات. فهي لونٌ من ألوان الخلَلِ الاجتماعيِّ، والتسلُّط القهريِّ، والأذى الحسِّيِّ والمعنويِّ. إنها: قضيةُ العُنف الأُسريِّ التي تجتاحُ بعضَ المُجتمعات، وتعملُ على هدمِ الأواصِر الاجتماعيَّة السَّامِية، والوشائِجِ الرُّوحيَّة والخُلُقيَّة النَّامية، والعلائِقِ الهَطِلَة بالإنسانيَّة الحانِية. لا ريبَ أن من أهم الجوانِبِ التي تولاَّها الإسلام بالعناية والرِّعاية، وأحاطَها بسِيَاجٍ منيعٍ من الصيانة والحِماية: جاِب الأُسرة واستِقرارها، والتلاحُم والتراحُم بين أبنائِها وأفرادها؛ فهي الأساسُ في تحقيقِ سعادةِ المُجتمع وضمانِ استِقرارِه، والرَّكيزَةُ العُظمى في إشادَة حضارةِ الأُمَّة وبناءِ أمجادِها. تُرفرِفُ على جنَبَاتها راياتُ الحبِّ والمودَّة، والرِّفق والرَّحمة، من خلال تحقيقِ نسيجٍ اجتماعيٍّ مُتميِّز هو الأنقَى جوهرًا، ونظامٍ قِيَميٍّ مُتألِّقٍ في أعماقِ النفوسِ تجذَّرَا، تنتظِمُه عواطِفُ الوُدِّ، والتصافِي المُشاع، وصِلةٍ كوَصلِ المُلتاعِ. في بُعدٍ عن الضغائِن والبغضاء، وغوائِل التقاطُع والجفاء، وإثارة الأحقاد والشَّحناء. إن المُتأمِّل في واقِع بعض الأُسَر المُسلِمة يُصابُ بالدَّهشة والحيرَة معًا، وهو يرى كثرة الأسباب والعوامِل التي تسعَى إلى تقويضِ بُنيانِها، وزَعزَعَة أركانِها، والعملِ على إغراقِ سفينتِها وسط أمواجٍ عاتِية، وسُيولٍ جرَّارة من ألوان الغزو الفِكريِّ الهادِر، والتحدِّي الثقافيِّ والقِيَميِّ السَّافِر. والذي يُروَّجُ له من ذوي الاستِلاب الثقافيِّ والأخلاقيِّ عبر قنواتٍ إعلاميَّةٍ مُتعدِّدة، تدعُو إلى التخلِّي عن كثيرٍ من المُحكَمات الشرعية، والثوابِت المرعيَّة، والتشكيكِ في المُسلَّمات الدينية المعلومة من دين الله بالضرورة، لاسيَّما في القضايا الزوجية والعلاقات الأُسرية. أضِف إلى ذلك: ما يعترِي بعضَ المُجتمعات في هذا الزمن من قُصورٍ في جوانِب العقيدة وتطبيقِ الشرعية، والتزهيد في العلم الشرعيِّ، وإعراضِ كلٍّ من الزوجين عن معرفةِ واجِباتِه قبل حقوقِه. ويوم أن ضعُفَ التديُّنُ الصحيحُ، وعظُم الجهلُ بالشريعة، وطغَت الماديات، ضعُفَت أواصِرُ التواصُل الاجتماعيِّ، وتعدَّدَت مظاهِرُ وظواهِرُ العُنف الأُسريِّ. وهذا ما أكَّدَته الدراساتُ العلميةُ الميدانيَّة من أن خمسًا وثلاثين في المائة (35 ) من حالات العُنف الأُسريِّ سببُها ضعفُ الوازِع الدينيِّ. فالله المُستعان. وثمَّة سببٌ مهمٌّ لا يُمكنُ إغفالُه، وهو التساهُلُ في جوانِب التربية، ووجود قُصورٍ في بعض مناهِج التعليم وبرامِج الإعلام في كثيرٍ من بلاد المُسلمين، مما كان عاملاً لسهولةِ التأثُّر بالأفكار المُنحرِفة، والمناهِج الدَّخيلة. فأفرزَ ذلك كثيرًا من صُور القهر الاجتماعيِّ، والعُنف الأُسريِّ التي تعيشُها بعضُ المُجتمعات. فبين عُنفٍ نفسيٍّ وآخر جسديٍّ، يرزَحُ فيه بعضُ الأُسَر وبناتها صِغارًا وكبارًا وكهولاً، في إهدارٍ لكرامتهم، وانتِهاكٍ لإنسانيَّتهم، مما يُنذِرُ بعواقِبَ وخيمةٍ، وإفرازِ أجيالٍ من الآداب والفضائِل عقيمة. إن هذا الداءَ العُضال إذا وقع لا ينفَكُّ يفتِكُ بأفراد الأُسرة واحِدًا تلوَ الآخر، وأولُ من يصطلِي بنارِه ويُصابُ بأذى شرارِه، ويُعانِي نفَحَات أُوارِه هم كريماتُنا وأخواتُنا النساء، والأطفالُ البُرَآء. فكم من أطفالٍ أصابَتهم الأمراضُ العضوية، وعانَوا من الاضطِرابات النفسيَّة من جرَّاء التحرُّش، والإيذاء الجسديِّ، والعُنف الأُسريِّ. وربما زادَ الأمرُ وتحوَّل إلى تخلُّفٍ دراسيٍّ، ومُشكِلاتٍ عقليَّة، ولزِمَتهم أمراضُ التأخُّر أو التوحُّد جرَّاء هذا الفعلِ المُريع، والمسلَك الشَّنيع. أخطر أنواع العنف وإن من أخطر الأخطار التي تُهدِّدُ عامِرَ الأُسَر والديار: العُنف ضدَّ المرأة، وهُروبَ الشباب وربما الفَتَيات من المنازِل إلى غير قرار، مما يجعلُهم عُرضةً للوقوع في حبائِل قُرناءِ السُّوء الأشرار، أو أصحابِ الأفكار الضالَّة والمُتطرِّفة، وما أكثرَهم في هذا الزمن الذي انتشَرَت فيه آراءٌ شاذَّةٌ غالِية، وموجاتٌ إلحاديَّةٌ عاتِيَة. وربما فُتِن بعضُهم بشرور المُخدِّرات تعاطِيًا وتسويقًا، أو تهريبًا وترويجًا. وقد يتعدَّى الأمرُ إلى رُكوبِ موجاتِ الإرهابِ والعُنف والتطرُّف، وحملِ السلاحِ على الأمة، والخروجِ على الأئمة، وتكفير المُجتمعات والغُلُوُّ، وتجاوُز منهَج الوسَط والاعتِدال، والوقوعِ في براثِن الانتِماءات الحِزبيَّة والطائِفيَّة، والجماعات الإرهابيَّة، والزَّجِّ بالأجيال إلى بُؤَر الصِّراعات ومواطِن الفِتَن والنِّزاعات. وبعد تشخيصِ الداء العُضال، ومعرفة أثرِه القتَّال، فحتْمًا ولا بُدَّ من أخذ التدابِير الواقِية للتصدِّي لهذا الخطر الدَّاهِم قبل استِفحالِه واستِحكام الندائِم، دفعًا ورفعًا، وللإيذاءِ قولاً وفعلاً. وأُولَى الخُطوات وأَولاها: تقويةُ الوازِع الدينيِّ، ومُراقبةُ المولى العليِّ، واستِشعارُ معيَّته ورقابتِه، وتعظيمُ أمره ونهيِه، وتحقيقً الاعتِدال والوسطيَّة. فشريعتُنا: إعمارٌ لا دمار، بناءٌ ونماءٌ لا هدمٌ وفناء، تدعُو إلى كل صلاحٍ، وتنهَى عن كل فسادٍ وطلاحٍ. يقول العلامةُ ابن القيِّم _ رحمه الله -: ومن تدبَّر أحوالَ العالَم وجدَ كل صلاحٍ في الأرض سببُه توحيدُ الله وعبادتُه، وطاعةُ رسوله صلى الله عليه وسلم . وصدقَ ربُّ العالمين؛ حيث يقول _ وهو أصدقُ القائِلين -: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]. وثاني هذه الخُطوات الاحتِرازيَّة التحصينية، والعوامِل الاستِباقيَّة الوِقائيَّة: إذكاءُ الجوانِب الأخلاقيَّة والقِيَميَّة؛ فهي معراجُ الروح لبناء الشخصية السوِيَّة، وجعلِها قويةً مُتماسِكة، راسِخةً مُتناسِقة، أُسوتُها وقُدوتُها: نبيُّ الهُدى والرحمة صلى الله عليه وسلم، المُضمَّخُ من القِيَم بأعظمِ الحظِّ والنصيبِ، الذي ترقَّى بالإنسانيَّة شطرَ الكمالات والمعالِي المُشمخِرَّات، القائلُ _ بأبي هو أمي، صلى الله عليه وسلم : إنما بُعِثتُ لأُتمِّمَ صالِحَ الأخلاق ؛ أخرجه البخاري في الأدب المفرد . لذا يجبُ تعزيزُ قِيَمنا الربَّانيَّة الومَّاضة التي تتأبَّى على التدليس، والمُوارَبة والتلبيس؛ كالرحمة والعدل والصدق والوفاء، والبرِّ والرِّفق والصفاء، والأمانة والإحسان والإخاء، وسِواها من كرائِم الشِّيَم الغرَّاء، والشمائِل الفَيحَاء، التي تُعدُّ مصابِيح للإنسان تُضِيءُ دربَه، وهي صِمامُ أمنٍ وأمانٍ لصاحبِها من الانحِلال الأخلاقيِّ وحياة الفوضَى والعبَث في مهاوِي الضلال وجلبِ التعاسَة والشَّقاء لنفسِه وأهلِه. فأيُّ رحمةٍ وإنسانيَّةٍ عند من يُعرِّضُ أبناءَه ومحارِمَه وأفرادَ أُسرته للعُنف والأذى والاعتِداء والرَدَى، بل والقتل والفناء. واحذَر مساوِئَ أخلاقٍ تُشانُ بها****وأسوأُ السُّوءِ سُوءِ الخُلق والملَلِ وثالثُها: نشرُ ثقافة العفو والتسامُح، والحِوار والرِّفق. وكفَى بالرِّفق مزِيَّةٌ مُكرَّمة، وفضيلةٌ مُعظَّمة اتِّصافُ ربِّ العالمين بها، ووصفُه نبيَّه _ صلى الله عليه وسلم _ بها، قال تعالى: ({فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} )[آل عمران: 159]. وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله رفيقٌ يُحبُّ الرفقَ، ويُعطِي على الرِّفقِ ما لا يُعطِي على العُنف ؛ رواه مسلم. والرِّفقُ لا يأتي إلا بخيرٍ، وهو حصنٌ حصينٌ للفرد والأُسرة والمُجتمع من أمراضِ التعنُّت والتشدُّد؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: إذا أرادَ الله عز وجل بأهل بيتٍ خيرًا أدخلَ عليهم الرِّفقَ ؛ أخرجه الإمام أحمد في المسند. رابعُها: المودَّةُ والرحمةُ بين الأزواج؛ فكيف تُقامُ حياةٌ أو يُؤسَّسُ بيتٌ وسط الخلافات الحادَّة، والمُناقشَات والمُحادَّة؟! وأنَّى يهنَأُ أبناءُ الأُسرة بالمحبَّة وينعَمون بالوُدِّ في جوٍّ يغلِبُ عليه التنازُعُ والشِّقاق، والتناحُرُ وعدمُ الوِفاق؟! وهل تستقيمُ حياةٌ بغير المودَّة والرحمة؟! ({وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}) [الروم: 21]. فإن من أعظم التوقِّي وأنفعِه: معرفة الحُقوق والواجِبات الأُسريَّة، وتحمُّل كل فردٍ مسؤوليَّته المَنُوطَة به، فلقد طاشَت أفهامُ كثيرٍ من الناس إزاءَ حقيقةِ المسؤوليَّة وفَحوَاها، ولم يستشعِرُوا ثِقَلَ مرامِيها ومدَاها. وهذا البلاءُ الذَّريع، والشرُّ الخفيُّ الشَّنيع هو الذي يفتشكُ بالأُسرة ومُقوِّماتها، ثم بالأمة ومُقدَّراتِها. وإنها لمسؤوليَّةٌ عظيمةٌ أن يبنِيَ الأبَوَان شخصيَّة أبنائِهم على أساس العقيدة الصحيحة، والاعتِزاز بدينِهم وتُراثِ أمَّتهم، وأمنِ وتنميَة أوطانِهم، مُحاطِين بالإيمان والهُدى والخير والفضيلة. فيتحصَّنون عقديًّا وفِكريًّا وأخلاقيًّا؛ بل يُصبِحون أقوِياء في مُواجهة الاستِهداف المُبطَّن والمُؤثِّرات المُحيطة بهم. لا ينهزِمون أمام ضُروب الباطِل، ولا يضعُفون أمام التيَّارات الفِكريَّة الزائِفة. وهذه كلُّها وِقاياتٌ نافِعة، ودوافِعُ ناجِعة، وضماناتٌ كافِية قبل مُداهَمَة الأخطار والأزَمات. أما إذا وقعَت النازِلةُ والواقِعة فليس لها م دُون الله كاشِفةٌ أو رافِعة! فدواؤُها الشافِي وتِرياقُها الوافِي: اللُّجوءُ إلى الله تعالى وتحكيمُ شريعتِه. والله المسؤولُ أن يُصلِحَ شأنَ الجميع في الحال والمآل، إنه خيرُ مسؤولٍ وأكرمُ مأمول. ولا تتحقَّقُ للأُسر المُسلِمة المودَّةُ والرحمةُ والسعادةُ في أجلَى مظاهِرها، وآرَج أزاهِرها إلا إذا تُوِّجَت بمعاقِل التغافُل عن صغائِر الأمور، والشُّعور بالحاجة المُلِحَّة إلى الرأي السديد الحَصيف، والمشورة الصادِقة، والنُّصح الهادِف، والنقد النَّزيه البنَّاء من مُحِبٍّ يستشرِفُ معالِيَ الأمور، ويسمُو بنفسِه عن كوامِن الغلِّ والشَّحناء، والحسَد والبغضاء. إضافةً إلى أهمية تحلِّي الزوجين وفقهما الله بالرحمة والرأفة والعدل والإنصاف من أنفسهما، وفي أولادهما، والبُعد عن كل ما من شأنِه زرعُ البُغض والقطيعة والشَّحناء بين أبناء الأُسرة الواحِدة. وإن الحاجة ماسَّة كي لا تستشرِي هذه القضايا إلى حدِّ الظواهِر المُقلِقة إلى سنِّ الأنظِمة الرَّادِعة، والتعزيرات الزاجِرة لكل مُرتكِبٍ لها. كما تبدُو أهمية وضع خُطَط استراتيجيَّةٍ مُتكامِلة تضمنُ الإجراءات الوِقائيَّة والعِلاجِية لهذه القضايا الاجتماعيَّة، والاضطِلاعُ بمشروعٍ إسلاميٍّ حضاريٍّ عالميٍّ، لضمان حقوق المرأة والطفل والأُسرة؛ لينعَمَ الجميعُ بالأمان الأسري والسِّلم الاجتماعيِّ.