بقلم: أحمد برقاوي* دعونا من نسبية أينشتين الشهيرة، فليس مقصودنا النسبية المعروفة في الفيزياء، فالحديث يدور في هذه العجالة عن النسبية بوصفها مفهوما عاما يشير إلى اختلاف المعايير الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، بل والمعرفية التي تمنع الاعتقاد بالحقائق المطلقة في هذا المجال، إذ إن نقيض المطلق هو النسبي، لكن النسبي قد يكون موضوعيا أيضا. ففي الأخلاق نتحدث مثلا عن الشرف الموجود في كل الثقافات، لكن الشرف في الثقافة الغربية مختلف عنه في الثقافة العربية أو الهندية، عندها نقول بكل اطمئنان إن الشرف مفهوم نسبي. وقس على ذلك الجمال، فمعايير الجمال تختلف من حضارة إلى أخرى، بل ومن فرد إلى فرد بحيث ما قد يبدو جميلا بالنسبة لك لا يبدو كذلك بالنسبة لآخر. وقس على ذلك نسبية الأذواق بعامة. حتى المعارف التي اتفق على صحتها بدا أن هناك معارف أخرى تدحضها، وإذا كان هذا يصح في العلوم الفيزيائية والكيميائية، فإنه من الأولى أن يصح في العلوم الإنسانية التي هي علوم احتمالية بالأساس. ونسبية المعرفة تؤكد السير الحثيث نحو إغناء المعرفة والتحقق منها وصياغة معارف جديدة قد تكون مناقضة لها. هذه المسألة المعرفية يكاد يتفق عليها. والموقف من النسبية يظل موقفا مفيدا إذا ما بقي في حقل المعرفة، ولم يتحوّل إلى موقف أيديولوجي، عندها نكون أمام نسبية أيديولوجية وليس نسبية معرفية. ما هي النسبية الأيديولوجية؟ النسبية الأيديولوجية هي التي تنطلق في النظر إلى الوقائع والأحداث انطلاقا من المصلحة الذاتية فقط وليس انطلاقا من موقف معرفي صرف. أي أنها موقف ذاتي يبرر ذاتيته انطلاقا من القول: إن كل أمر هو نسبي، وأخطر أنواع النسبية نسبية الموقف من الواقع أيديولوجيا، الموقف قد يصل حد تكذيب الواقعة أو تبريرها، أو البحث عن أسباب لفهمها لا علاقة لها بالأسباب الحقيقية. فإذا كانت كل المواقف نسبية، وكل الوقائع والعلاقة بها نسبية فإن معيار الصح والخطأ والأخلاقي واللاأخلاقي والحق والباطل يغدو لا قيمة لها. فتأمل معي أيها القارئ العزيز موقف شخص يؤيد التمييز العنصري انطلاقا من فكرة أن الأمور نسبية، آنذاك تصبح العنصرية واللاعنصرية متساويتين بالقيمة. أو أن مناهضا للعلم يقول لك إن كل ما جاء به العلم حول كروية الأرض باطل باسم النسبية، وقس على ذلك. صحيح أن النسبية حاضرة في الفروقات البنيوية بين الثقافات، من عادات الطعام إلى اختلاف الأزياء، مرورا بعادات الأفراح والأتراح، لكن هناك إجماع في كل الثقافات حول تحريم القتل. ولا يجوز أن يخضع ذلك التحريم إلى موقف نسبي. كما أنه من الصحيح أن المواقف السياسية والأيديولوجية مختلفة بسبب نسبة المواقف إلى أصحابها، مما يجعلها نسبية، ولكن لا نسبية في رفض أن يشرعن أحد عملا إرهابيا يقتل مدنيين أبرياء. ومما يلفت النظر هو اللاموقف بحجة نسبية الأمور وعدم اتخاذ الموقف المعبر عنه بالرأي. وهذا هروب من المسؤولية تجاه أحداث الدنيا بتبرير واهٍ. وهذا هو الآخر موقف أيديولوجي يبرر العزلة والانعزال. بقي أن نعود إلى فكرة أتينا على ذكرها لماما، ألا وهي أن نسبية الحقائق مهما كان صعيدها في العلوم الطبيعية أو العلوم الإنسانية يجب أن لا تحملنا على نكران موضوعيتها، بل يجب الاعتراف بموضوعيتها حتى لو جاء من هو قادر على دحضها. لأن المعرفة سيرورة لا تتوقف. فاكتشاف علاقة بين الجريمة والفقر أمر موضوعي، لكن التعميم المطلق ليس صحيحا، أي ليس كل فقير مجرم، وهناك غني مجرم، لكن المجتمعات الفقيرة تكثر فيها الجريمة بسبب الحاجة غير القابلة للتحقيق، وبسب التشرد وغياب التربية، وبسبب ضعف التعليم .. الخ. لكن الفقر قد يؤدي إلى التمرد أيضا. إن قد التقليلية في اللغة (قد أداة تقليل) هي المعبرة عن نسبية الأشياء. بمعنى عدم اليقين المطلق. فتكون النسبية موقف حذر من إطلاق الأحكام على عواهنها. بل إن الظاهرة نفسها قد تقوم بدورين مختلفين. حسبنا أن نستذكر قول الشاعر السوري الشهير بدوي الجبل حين قال: وبعض الهوى كالنور إن فاض يأتلق وبعض الهوى كالغيث إن فاض خربا والذرة تسهم في سعادة الإنسان وقد تؤدي إلى دماره الساحق. فلنعلن انحيازنا إلى كل ما ينجب السعادة والأمان والحرية للإنسان.