من المعلوم أن الشريعة الغراء جاءت لتغطي احتياجات الفرد والمجتمع في شتى المجالات، وتنظم الحياة بجميع مظاهرها بانسجام وتناسق بينهما، فلا طغيان لجانب على آخر، ولا لجهة على أخرى. وإذا كان من حق الفرد المتدين في المجتمع الإسلامي أن يلزم نفسه بالعزائم، ويأخذ نفسه بالشدة _ بلا غلو وتنطع _ ، فليس من حقه أن يلزم الآخرين في المجتمع بذلك، وينكر عليهم الأخذ بالرخص وما فيه سعة !. بل إن الأمر في المجتمع على العكس، فالذهاب فيه للتيسر والرخصة هو الأجدى والأنفع والأولى، لما أن فيهم الشيخ الكبير والمرأة الضعيفة وحديث العهد بالتدين والصغير .. وهو ما يفهم من الكثير من أحاديث النبي الكريم _ عليه الصلاة والسلام _ منها: (إذا أمّ أحدكم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف وذا الحاجة، فإذ صلى وحده فليصل كيف شاء) متفق عليه فقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما . فالعبادة _ وهي هنا الإمامة _ لما تعلقت بالمجتمع أمر فيها النبي عليه الصلاة والسلام بالتخفيف والتيسير على الناس، أما لما تعلقت بالفرد، فلا بأس أن يأخذ نفسه بالعزيمة والشدة (فليصل كيف شاء) الأمر إليه. هذا هو الفقه !. ومن النصوص المشهورة: ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى بأصحابه ليالٍ، ولما كانت الثالثة أو الرابعة لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: (لَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ).رواه البخاري (1129) وفي رواية (وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا). وفي لفظ مسلم (761). فالنبي الكريم _ صلى الله عليه وسلم _ كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، لكنه مع أمته ومجتمعه (عبادة جماعية وتدين الأمة) رفيق ميسر لا معسر يذهب مذهب التخفيف. هذا هو الرأي !. لذلك درج الكثير من الفقهاء والمفتين على أخذ أنفسهم بالعزيمة، لكنهم إذا أفتوا الآخرين أفتوهم بالرخصة والتيسير. يقول سفيان الثوري _ رحمه الله _: (إنما العلم الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد). وعليه فلا يصح للمتدين أن ينكر على الآخرين تدينهم وعبادتهم وسلوكهم حينئذ، وليس له أن يصنف ذلك من المنكر الذي يجب أن يغير، وأن ما هو عليه، من المعروف الذي يجب أن يأمر به، فما دام الأمر فيه سعة ويحتمل الخلاف والرخصة، فلا منكر حينئذ وليس في تركه مخالفة أو شذوذ. وإنما المنكر هو: تعنيف الآخرين والتشديد عليهم بلا مبرر ومسوغ شرعي، وحملهم على مذهب تمذهب هو به وقناعة اقتنع بها، ووسمهم بالتقصير في حق الدين، ووصفهم بألقاب لا تليق ! فهو من العصيان المحرم. وما دام الأمر كذلك، فلا ينظر الفرد المتدين حينئذ للمجتمع نظرة استعلائية من برج عال فيها ازدراء للناس بسبب أخذهم للرخص أو لآراء ميسرة، ويظن أنه فاق الناس وبلغ المنزل، فهذا مما لا يجوز ولا يصح، بل حتى وإن قصر الناس في دين الله وعصوا، فلا يصح منه مثل هذا، ذاهبا مذهب التزكية لنفسه والناس وإن قصروا في حق الله فلا يخرجون عن كونهم بشرا، والكل يخطئ ويصيب في دين الله، ولا معصوم إلا من عصمه الله. والعاصي اليوم ربما يكون طائعا متبتلا في الغد، والمتدين اليوم ربما يكون عاصيا منحرفا غدا ! (عن عمر أن رجلًا كان يلقب حمارًا، فجيء به يومًا إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وقد شرب الخمر، فقال رجل: اللهم العنه؛ ما أكثر ما يؤتي به رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم : _ لَا تَلْعَنُوهُ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ_أخرجه البخاري في الصحيح 8/ 197. وقد قال الصحابة في حق عمربن الخطاب _ ر ضي الله عنه _ : والله لا يسلم عمر حتى يسلم حمار الخطاب !. رواه الطبراني . تيئيسا من إسلامه . لكنه أسلم وحسن إسلامه وكان الفاروق الذي عرفه الأجيال والتاريخ. والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو أحرص الناس على الدين والرسالة السماوية وعلى إسلام الناس وتدينهم، خاطبه الله مرارا قائلا: (لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) الغاشية: 22. (ما أنت عليهم بوكيل) الشورى: 6. (ما أنت عليهم بجبار) ق : 45 . وغيرها الكثير. فالدين دين الله وما نحن إلا دعاة لا وكلاء عن رب العباد _ معاذ الله _ ندخل الناس الجنة وندخل آخرين النار. ونحكم على مجتمع بكفر ونفاق وعلى آخر بإسلام والتزام !. ومما يجب على المتدين في المجتمع المسلم مراعاته: حسن ترتيب الأولويات، فلا يضيع واجبا من أجل سنة، ولا أصل من أصول الدين ليشيع رأيا فقهيا فيه سعة وخلاف. مثاله: المحافظة على الأخوة الإسلامية قاعدة متينة وأصل في الدين وعبادة مجتمعية لا تفريط فيها، فلا تقوض وتهدم من أجل خلاف في الفروع والجزئيات، وعلى سنن أو مندوبات وآراء فقهية !. فلا يحسن علاقته مع الله ويفسدها مع المجتمع، فالعبادات الاجتماعية هامة وحقوقهم كبيرة، ومن هذه العبادات ما هو في رأس السلم التشريعي والهرم الأخلاقي. وليس من المنطق ما يفعله بعض المتدينين من انفصال عن الواقع واعتزال للمجتمع والنأي بالنفس عن الخلطة. فهذا مرض خطير وشذوذ عن الطبيعة المجتمعية، وتدين متطرف يفضي لعواقب لا تحمد عقباها. أخيرا وليس آخرا: أيها المتدين: لا تنشغل بالمظهر عن المخبر والجوهر، ولا بالقالب عن القلب، ولا بالفرع عن الأصل، ولا بالمندوبات عن المحرمات والموبقات، ولا بتصنيف الناس والحكم عليهم، فهو من تلبيس إبليس ومن الجهل المستحكم. * الدكتور إيهاب برهم