بقلم: هيفاء زنكنة* استقبل أهالي مدينة تكريت محافظة صلاح الدين في العراق العام الجديد بإعلان القوات الأمنية العثور على مقبرة جماعيّة تضم 46 شخصاً.. ولا يزيد عمرها عن الأربعة أشهر. وهو إعلان كان من الممكن أن يساعد أهل الضحايا على معرفة مصير أحبائهم المفقودين لو تم التعامل مع الحدث المأساوي بشكل إنساني يكرس الحقيقة. إلا أن التعامل مع هذه المقبرة كما أثبت مسار التعامل مع عشرات المقابر التي تم العثور عليها منذ غزو البلد عام 2003 وحتى اليوم لن يتعدى الجانب الإعلامي والتقاط الصور وعقد المؤتمرات الصحافية وتجريد الحدث من أي لمحة إنسانية عبر تجييره سياسيا لصالح هذا الحزب أو ذاك. وبدت ملامح نسيان الضحايا وأهاليهم واضحة حالما عثر على المقبرة. إذ أعلن مسؤول في اللجنة الأمنية في مجلس المحافظة أنّ (الجثث نُقلت إلى وحدات الطب العدلي لأجل تحليلها ومعرفة هويات أصحابها). بينما سارع عضو مجلس المحافظة أحمد الجبوري بدلا من انتظار نتائج التحليل إلى اتهام تنظيم (داعش). في ذات الوقت الذي لم يستبعد فيه عضو مجلس عشائر صلاح الدين الشيخ محمود أنّ (تكون المقبرة من ضحايا الميليشيات التي لم تقل جرائمها عن جرائم داعش). ولأن تكريت كانت لفترة تحت سيطرة داعش زمنا قامت خلالها بحملات اعتقال وخطف وتصفيات ثم أصبحت تحت سيطرة ميليشيات (الحشد الشعبي) زمنا آخر نفذت خلالها حملات اعتقال وخطف وتصفيات بات تشخيص القتلة ناهيك عن تقديمهم للعدالة في جو يهيمن عليه الخوف والأكاذيب والتهويل والمبالغات والتدليس السياسي أمرا غير مرغوب فيه. وكما يتضح من كيفية التعامل مع قضية المقابر الجماعية على ضبابية تعريفها لم يبذل النظام أي جهد لكشف حقيقتها سواء من ناحية عدد المقابر ومواقعها وحقبتها الزمنية وهوية الضحايا وعددهم ومن المسؤول عنها على الرغم من كون المقابر الجماعية واحدة من الأسباب التي طالما استخدمت لإدانة النظام السابق وحث المجتمع الدولي على التخلص منه لتحقيق العدالة للضحايا والمظلومين من الشيعة والكرد (مما استثنى السنة وجعلهم بالنتيجة من المسؤولين عن المقابر). فرئيس الوزراء البريطاني توني بلير أوصل رقم ضحايا نظام صدام حسين في المقابر الجماعية إلى 400 ألف. مستندا إلى صحيفة حقائق أصدرتها الإدارة الأمريكية وكررها الرئيس الأمريكي بوش. زايد عليهما أياد علاوي كما لو كان في مزاد علني ليوصل الرقم إلى مليون فتمت مكافأته بعد الغزو بتعيينه رئيسا للوزراء. ولم يتوقف يوما لذكر ضحايا نظامه والاحتلال خاصة في الفلوجة. وأعلنت منظمة (هيومان رايتس ووتش) الدولية أن عدد الضحايا هو 390 ألف وهو تقديري كما اعترفت هانيا المفتي الباحثة في المنظمة: (استندت تقديراتنا على التقديرات. واستند هذا الرقم في نهاية المطاف في جزء منه على معلومات ظرفية جمعت على مدى سنوات). كما تنصلت الحكومة البريطانية (الغارديان 18 تموز 2004) من تصريح بلير خاصة بعد أن أثبت تحقيق استقصائي لصحيفة (الأوبزرفر) حجم تضخيم الأرقام واستخدامها من قبل الساسة في أمريكا وبريطانيا بالإضافة إلى المتعاونين معهم من العراقيين إثر الغزو لتغطية أكذوبة أسلحة الدمار الشامل. الإبادة الجماعية للعراقيين أدت حملات التضليل الإعلامية ونبش القبور والتقاط الصور لمسؤولين يقفون على حافات حفر متناثرة في أرجاء العراق ومن ثم ترك المواقع مهما كانت هوية المدفونين وعددهم بلا حفظ أو حماية للأدلة إلى تشويه قضية المفقودين الإنسانية وتجيير معاناة أهاليهم لأغراض دعائية سياسية مبتذلة وإلى تغييب الحقيقة. الأمر الذي ينعكس على بنية المجتمع ليمد جذور التقسيم العرقي والديني والطائفي حيث أصبح (أنا) البريء و(الآخر) هو المتهم. وهي مسألة خطيرة الأبعاد لأنها تشرعن الحقد والانتقام والقتل. فالبحث عن الجناة ومقاضاة المسؤولين ومعاقبتهم وتعويض أهالي الضحايا هو صلب العدالة الانتقالية وتنقية الأجواء والمصالحة. ولتحقيق ذلك لسنا بحاجة إلى المبالغات وتوجيه التهم الجاهزة. كلنا يعلم أن نظام صدام حسين ارتكب الجرائم ضد شعبه ولم يسلم حتى أهله ولكن.. ماذا عن مقابر المحتل وحكوماته المتعاقبة؟ كيف نصف المقبرة الجماعية إذا كانت تضم رفات الجنود الذين قاتلوا الغزاة؟ والمقابر التي تضم رفات الجنود المنسحبين من الكويت عام 1991؟ وضحايا الإعدامات الجماعية في معتقلات وزارات الداخلية والعدل والدفاع برعاية نوري المالكي رئيس الوزراء السابق (حزب الدعوة) بالإضافة إلى ضحايا الميليشيات وداعش؟ هذه الضبابية الناتجة عن تشويه الحقيقة تنقلنا إلى سؤال أكثر إلحاحا وهو : كيف يتم التعامل مع ذوي الضحايا؟ هل ينظر إلى الضحايا عبر الحقب باعتبارهم شهداء وبالتالي تتوجب توفير الرعاية والتعويضات لذويهم؟ لا مجال للتفاؤل في هذا المجال. فالجنود الذين قاتلوا في الحرب العراقية الإيرانية وأعتبروا شهداء في حينها خلعت عنهم صفة الشهادة وما يترتب عليها من إعانة لعوائلهم مع مجيء النظام الموالي لإيران. وتم تشريع قانون (حماية المقابر الجماعية) الصادر في 12 مارس 2006 الذي يحصر صفة الشهيد بضحايا النظام السابق. الأمر الذي دفع عبدالستار رمضان روزبياني وهو نائب مدعي عام سابق وبالتأكيد ليس داعشيا أو من أزلام النظام السابق إلى التساؤل: (فما هو الموقف لو اكتشفت مقابر جماعية حديثة أي حدثت بعد 9 نيسان 2003 أو أنه قد ارتكبت من أحزاب أو جماعات أو من قبل القوات الأمريكية أو حتى من قبل قوات محسوبة على الحكومة العراقية فما هو الحكم والمركز القانوني للضحايا أو الشهداء؟). إن سياسة توجيه التهم الجاهزة وعدم التحقيق في هوية الجناة ومقاضاتهم بعد جمع الأدلة سيكرس الطائفية السياسية والعرقية بأبعادها الانتقامية الوحشية بينما يمنح المحتل صك الغفران على كل ما ارتكبه وساهم في خلقه.