* هل صحيح أن الاستبداد السياسي من علامات الساعة، وإن كان كذلك، ألم يكن الاستبداد السياسي موجودا منذ آلاف السنين؟ ** إن من بين علامات الساعة الاستبداد السياسي، وأن يتولى الأمور من لا حق له فيها، ومن ليس أهلا لها، وأن يستولي على مقدرات الشعوب، وأن يكون السفلة هم أعالي الناس، وإن أخطر ما يصيب الأمة الانحراف في الحكم، فلا يحكم بشرع الله، وأن يولي الحكام ُوجوهَهم شطر أعدائهم بدلا أن يولوها شطر ربِّهم، ويستتبع هذا ضياع للدين والدنيا معا، وإن كان الاستبداد السياسي ليس وليد الساعة، ولكنه سيكون بكثرة كاثرة في آخر أيام الدنيا. يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: من أعظم هموم الوطن العربي والإسلامي هو الاستبداد والاستبداد السياسي خاصة: استبداد فئة معينة بالحكم والسلطان، برغم أنوف شعوبهم، فلا همَّ لهم إلا قهر هذه الشعوب حتى تخضع، وإذلالها حتى يسلس قيادها، وتقريب الباحثين بالباطل، وإبعاد الناصحين بالحق. هذا الاستبداد خطر على الأمة في فكرها وفي أخلاقها، وفي قدرتها على الإبداع والابتكار، ولسنا في حاجة إلى أن نعيد ما كتبه الشيخ عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) عن مضار الاستبداد، وآثاره في حياة الفرد، وحياة الجماعة، وإن كان الاستبداد اليوم أشد خطرا من قبل بمراحل ومراحل، مما أصبح في يد السلطة من إمكانات هائلة تستطيع بها أن تؤثر على أفكار الناس وأذواقهم وميولهم، عن طريق المؤسسات التعليمية والإعلامية والتثقيفية والترفيهية والتشريعية، وجلها إن لم يكن كلها في يد الدولة. ولكن الذي أؤكده أن الإسلام أول شيء يصيبه الأذى والضرر البالغ من جراء الاستبداد والطغيان. وتاريخنا الحديث والمعاصر ينطق بأن الإسلام لا ينتعش ويزدهر، ويدخل إلى العقول والقلوب، ويؤثر في الأفراد والجماعات، إلا في ظل الحرية التي يستطيع الناس فيها أن يعبروا عن أنفسهم، وأن يقولوا: (لا) و(نعم) إذا أرادوا ولمن أرادوا، دون أن يمسهم أذى أو ينالهم اضطهاد. كما أثبت التاريخ الحديث والمعاصر أن الدعوة إلى الإسلام، إنما تضمر وتنكمش حين يطغى الاستبداد، أو يستبد الطغيان. ولولا الاستبداد الذي استخدم الحديد والنار، ما تمكنت العلمانية في تركيا من فرض سلطانها على التعليم والتشريع والإعلام والحياة الاجتماعية كلها، على الرغم من معارضة الجماهير الإسلامية الغفيرة، والتي لم يستطع الحكم العلماني بعد حكم ستين سنة أن يستأصل جذورها الإسلامية، أو يخمد جذوتها. ومعظم أقطار الوطن العربي والإسلامي قد ابتليت بفئة من الحكام عناهم الشاعر بقوله: أغاروا على الحكم في ليلة* ففر الصباح ولم يرجع! القلوب تكرههم، والألسنة تدعو عليهم، والشعوب تترقب يوم الخلاص منهم لتجعله عيداً أكبر، ومع هذا يستفتى الشعب على حكمهم، فلا ينالون أقل من 99.999 (التسعات الخمس) المشهورة في كثير من بلادنا، وبلاد العالم الثالث المقهور المطحون. إن الاستبداد ليس مُفسدًا للسياسة فحسب، بل هو كذلك مفسدٌ للإدارة، مفسد للاقتصاد، مفسد للأخلاق، مفسد للدين؛ مفسد للحياة كلها. هو مفسد للإدارة، لأن الإدارة الصالحة هي التي تختار للمنصب القوي الأمين، الحفيظ العليم، وتضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وتثيب المحسن وتعاقب المسيء. ولكن الاستبداد يقدِّم أهل الثقة عند الحاكم، لا أهل الكفاية والخبرة، ويقرب المتزلفين والمنافقين، على حساب أصحاب الخلق والدين. وبهذا تضطرب الحياة وتختل الموازين، وتقرب الأمة من ساعة الهلاك، كما أشار إلى ذلك الحديث الصحيح: "إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة قيل: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة". وكما أن هناك ساعة عامة تطوى فيها صفحة البشرية كلها، توجد لكل أمة ساعة خاصة، يذهب فيها استقلالها وعزها، إذا أسندت أمورها إلى من لا يرعى أمانتها، ولا يقوم بحقها، ولا يتقي الله فيها.انتهى ويقول فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: تشير الأحاديث النبوية إلى بعض علامات الساعة، منها: "... ويَفيضُ المالُ حتى لا يَقبلَه أحدٌ" وقوله عليه الصلاة والسلام في هذه الأمارات: ".. أن تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَها، وأن تَرَى الحُفَاةَ العُراةَ العالةَ رِعَاءَ الشاءِ يَتطاولون في البنيانِ" وفي رواية ".. إذا كان الحُفاةُ العُراةُ رءوسَ الناسِ". وقد وَهِل البعضُ في فهم هذه الكلمات، وظنوا الإسلام يكره رياسة الفقراء! وهذا خطأ فاحش، وهل كان العرب حَمَلة الحضارة الإسلامية إلا فقراء يَرعَونَ الغنم! إن المقصود تقدُّم السَّفِلة بالوسائل الهابطة، ووصول من لا كفاية له إلى مناصب لا يستحقها، وهذا ما نفهمه من الأحاديث الأخرى مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقومُ الساعةُ حتى يكونَ أسعدُ الناس بالدنيا لُكَعَ بنَ لُكَعَ" أي اللئام الأقذار. وفي رواية: "لا تقوم الساعةُ حتى يَرِثَ الدنيا شِرارُكم" وفي أخرى: "لا تقومُ الساعةُ على أحدٍ يقولُ: اللهُ اللهُ". والواقع أن فساد الحكم شر أنواع الفساد كلها، فإنه يتيح للأوغاد أن يدمروا الأخلاقَ والأمجادَ وأن يرخِّصوا الدماء والأعراض. ويبدو أن الأمة الإسلامية سيَشيع فيها هذا البلاء أكثر من غيرها، فقد صح عن الرسول الكريم أنه بينما كان يحدِّث القوم جاءه رجل فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه حتى إذا قضاه قال: "أين السائل؟" قال: ها أنذا يا رسول الله. قال: "إذا ضُيِّعَت الأمانةُ فانتظِرْ الساعةَ" قال: وكيف إضاعتُها؟ قال: "إذا وُسِّد الأمرُ إلى غيرِ أهلِه فانتظِرْ الساعةَ". ومع أن الخيانات الاجتماعية والسياسية ضاربة الجذور في تاريخنا إلا أنها ستزداد فُشُوًّا وعتوًّا في الأعصار الأخيرة. هناك حاكم مات أبوه وهو يشتهي ركوب الحمار، مكَّن له القدر فأصبح ينتقل بالطائرة، ولم يكتف بذلك حتى جعل الطائرة تنقُل الحلوى لأولاده وأحفاده، من مال الشعب. ما أتعَسَ الإسلامَ بأولئك الحكام! والأئمة المضِلُّون هم الخلفاء الظلمة والملوك المستبِدُّون، وهؤلاء منذ ظهروا بدأ خط الانحراف في تاريخنا، فانفصل العلم عن الحكم أو انفصلت السياسة عن الثقافة. ثم انشعبت المعرفة الدينية شعبتين بعد ما توحدت زمانًا، فإذا متصوفون لا فقه لهم وفقهاء لا قلوب لهم. ثم مضى الانحراف إلى مداه فإذا المتصوفة يَفقِدون الإخلاص والتجرد ويُمسون أصحاب مراسم وشيوخ طرق، وإذا الفقهاء يُخلِّفون بعدهم مقلِّدين لا يذوقون حكمة نص ولا يحسنون الاجتهاد لنازلة. وصَحِبَ هؤلاء وأولئك قصورٌ شائن في علوم الحياة وشؤون الدنيا، فكان لابد أن تركع الأمة أمام أعدائها بعد ما انهارت ماديًّا وأدبيًّا! وأذكر أن صديقًا قال لي: إن الأوربيين والأمريكيين يكرهون اليهود، ولكنهم يحتقرون العرب، وماذا لدينا يستدعي الاحترام. في تلك الحال يُذكَر حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشِكُ أن تَداعَى عليكم الأممُ كما تَداعَى الأَكَلَةُ إلى قَصعَتها" فقال قائل: مِن قلةٍ نحن يومئذ؟ قال: "لا، بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السيلِ، ولَيَنزِعَنَّ اللهُ من صدورِ أعدائكم المَهابةَ منكم، ولَيَقذِفَنَّ في قلوبكم الوَهْنَ" قيل: وما الوَهْنُ؟ قال: "حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت". انتهى. والله أعلم * من بين علامات الساعة الاستبداد السياسي، وأن يتولى الأمور من لا حق له فيها، ومن ليس أهلاً لها، وأن يستولي على مقدرات الشعوب، وأن يكون السفلة هم أعالي الناس، وإن أخطر ما يصيب الأمة الانحراف في الحكم، فلا يُحكم بشرع الله، وأن يولي الحكام ُوجوهَهم شطر أعدائهم بدلا أن يولوها شطر ربِّهم. * معظم أقطار الوطن العربي والإسلامي قد ابتليت بفئة من الحكام عناهم الشاعر بقوله: أغاروا على الحكم في ليلة* ففر الصباح ولم يرجع! القلوب تكرههم، والألسنة تدعو عليهم، والشعوب تترقب يوم الخلاص منهم لتجعله عيداً أكبر، ومع هذا يستفتى الشعب على حكمهم، فلا ينالون أقل من 99.999 (التسعات الخمس) المشهورة في كثير من بلادنا، وبلاد العالم الثالث المقهور المطحون.