استغل كثير من الناس سقوط النظام الحاكم في مصر وغياب الدولة في الاستيلاء على أراضي الدولة وأملاك الغائبين، والاستيطان في بعض التجمعات السكنية المملوكة للدولة والتي أنشئت لصالح المواطنين، وبعضهم يتعلل بأن هذا حقه، ولو انتظر استجابة الدولة للحصول عليها فلن يحصل على شيء. فما رد فضيلتكم؟ * يجيب الدكتور محمد سعدي بالقول: نهى الإسلام نهى عن الاعتداء على المال العام أو الخاص وشدد على ذلك، وحفظ الممتلكات العامة أو الخاصة مما يدعو إليه شرعنا، ويحث على حفظه وصونه ويحرم ويجرم الاعتداء عليه، وحفظ المال من مقاصد الشريعة الإسلامية التي أتت بحفظها، وجعلت حد قطع اليد على من ارتكب جريمة السرقة. وعقوبة الاعتداء على المال العام وإفساده عقوبة تعزيرية ترجع إلى تقدير القاضي المنوط بهذه الأحكا، وفي الاعتداء على المال الخاص بالسرقة حد قطع اليد إذا توافرت شروط إقامة الحد. وحرمة المال العام أشد من حرمة المال الخاص لأن الاعتداء على المال الخاص اعتداء على فرد أما الاعتداء على المال العام فهو اعتداء على الأمة بمجموعها، وفي كل ذنب عظيم وجريمة منكرة لا يقرها شرع أو عقل أو منطق سليم. ونقصد بالمال العام المال الذي تعود ملكيته للأمة جمعاء لا لأحد بعينه، ويشمل الأموال المنقولة وغير المنقولة، ويدخل فيها مرافق الدولة وما تمتلكه الدولة نيابة عن شعبها، والمال العام من أسباب قوة البلاد، وهو من القوة التي أشار إليه المولى عزوجل في قوله تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ" [الأنفال/60] ، وقد أمرنا بأن نعد القوة لا أن نخرب قوتنا بأيدينا فالواجب هو حراسة المال العام وصونه من الضياع أو إفساد المفسدين من العابثين. ومن أدلة تحريم المال العام حديث ابن اللتبية الذي ورد في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي. فقام النبي صلى الله عليه وسلم وتكلم، وكان مما قال: فهلا جلس في بيت أبيه، أو بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا"؟ وقد جاء في صحيح البخاري أنه كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: كركرة، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو في النار، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها( سرقها). وهذا الحديث يرشد إلى أن المتعدي على المال العام يعد غالاًّ، وعقوبة الغالّ عقوبة شديدة في الدنيا والآخرة، ويكفي أن نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:" وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" [آل عمران/161] والغلول هو الأخذ في خفية لا في العلن، ومعنى قوله سبحانه وتعالى:"وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" أي أن من يقع في جريمة الغلول سيأتي يوم القيامة يحمل ما أخذه خفية لكي يفتضح بها على رءوس الأشهاد فهو يحمل جريمته يراه أهل المحشر فيفتضح بما كان به متكتما في الدنيا فما بالنا بمن يجهر بسرقة المال العام. وهذا الحمل حقيقة فقد أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَطِيبًا فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ لَهُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ . لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهَا حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. وفي البخاري عن خولة الأنصارية مرفوعاً: "إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة". أما التعدي على أراضي الغير دون وجه حق فهو حرام أيضا وهو من أكل أموال الغير بالباطل وفي الحديث فقد روى الإمام مسلم بسنده في صحيحه قال حدثنا: أبو الطفيل عامر بن واثلة قال : كنت عند علي بن أبي طالب فأتاه رجل فقال ما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يسر إليك قال: فغضب، وقال : ما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يسر إلي شيئا يكتمه الناس غير أنه قد حدثني بكلمات أربع، قال : فقال ما هن يا أمير المؤمنين، قال : قال لعن الله من لعن والده، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً ، ولعن الله من غيَّر منار الأرض. وقد جاء لعن من تعدي على أراضي الغير على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ففي مسند أحمد عن ابن عباس قال: قال النبي : ملعون من سب أباه، ملعون من سب أمه، ملعون من ذبح لغير الله، ملعون من غير تخوم الأرض، ملعون من كمه أعمى عن طريق، ملعون من وقع على بهيمة، ملعون من عمل بعمل قوم لوط." ومعنى تغيير تخوم الأرض هي العلامات التي توضح حدود الأراضي وممتلكات الناس فيأتي أحدهم فيزحزح العلامة حتى يستفيد من أرض جاره فجاء لعنه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لأنه اقتطع من مال أخيه بغير حق، ومنار الأرض يقصد بها العلامات الإرشادية التي تهدي الناس حتى لا يضلوا أو يتيهوا فمن يغير هذه العلامات يلعن فما بالنا بمن يسرقها. وقد جاء النهي صراحة في عن الاعتداء على ممتلكات الناس سواء بالقوة أو بالحيلة فقد قال تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء/29] وقد أعاب القرآن الكريم على أحبار أهل الكتاب أكلهم أموال الناس بالباطل فقال تعالى: "فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء/160، 161] وقال أيضا:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" [التوبة/34] وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها الذي رواه البخاري في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها". الوقوف في وجه الظلم والواجب على من يجد أمامه نهبا لدار أو مسكن أو ممتلكات عامة أو خاصة ألا يقف ساكنا بل عليه أن يعمل جاهدا على إنكار هذا المنكر كل بقدر طاقته واستطاعته ففي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. ومعنى أضعف الإيمان -كما سألت- أي أقله ثمرة؛ كما قال النووي. وفي حالتنا هذه لا يكفي التغيير بالقلب؛ لأن التغيير باليد واللسان لايكفي عند غياب الدولة، ففي مصر قام الشباب المخلص والرجال الأنقياء بتشكيل لجان شعبية قامت بحفظ الأمن عندما غاب رجال الأمن فيمكن تفعيل دور هذه اللجان الشعبية للحفاظ على المال العام حتى تستقر الأوضاع وروى الترمذي في سننه وحسنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله. فإن لم تكن ثمة لجان شعبية فيمكن أن ينصح من يقوم بالتعدي فإن لم تجد النصيحة سبيلها عند المعتدي فبإمكان من وجد نهبا وتعديا أن يبلغ أصحاب الشأن والمعنيين بالأمر بدلاً من السكوت على ظلم فيقع الإنسان في ظلم أشد. تبرير الجريمة! ولا عبرة بتعلل بعض من يعتدي على المال العام أن هذا من حقه وأنه لو انتظر استجابة الدولة للحصول على حقه فلن يحصل عليه، فهذا كلام باطل لا أصل له، وهو نوع من تزيين الشيطان له بالمعصية، ودفعه فيها، ولو كان له حق فأولى أن يرفع أمره إلى القضاء لكي يحكم له القضاء بالحق وبالقسطاس المستقيم، أما نهب المال العام بهذه الدعوى فمرفوض، ويجب على الدولة أن تتعامل بحزم مع من تسول له نفسه أن يتعدي على الممتلكات ويشيع الفزع بين الناس. والله أعلم. * لا عبرة بتعلل بعض من يعتدي على المال العام أن هذا من حقه وأنه لو انتظر استجابة الدولة للحصول على حقه فلن يحصل عليه، فهذا كلام باطل لا أصل له، وهو نوع من تزيين الشيطان له بالمعصية، ودفعه فيها.