بقلم: محمد مصطفى حابس* في المدة الأخيرة يلحظ كل مهتم بالشأن الثقافي عموما توالي رحيل العلماء والكتاب خاصة منهم الذين أرخوا للجزائر وثورتها المباركة يرحل الواحد تلو الآخر في صمت إعلامي مطبق أحيانا إذ رحل منذ أزيد من سنة شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور أبو القاسم سعد الله تلاه زميله المؤرخ عبد الكريم بوصفصاف من جامعة قسنطينة ثم المؤرخ والإعلامي زهير إحدادن من منطقة القبائل فالمؤرخ بوعلام بلقاسمي من الجيل الثاني الذي وافاه الأجل خارج الجزائر هناك في سلطنة عُمان وهو يؤدي دوره العلمي في جامعة مسقط رحل عنّا وهو في قمة العطاء الفكري رحمة الله على الجميع. وهاهو يرحل اليوم بل يترجل فارس آخر من فرسان القلم عن صهوة العطاء للجزائر علما أنه ليس من أبنائها ولم يولد بترابها بل ملاحم أرض المليون ونصف شهيد جعلته في رتبة مجاهدي الثورة بقلمه وفكره رحل هذا الفارس لترتفع روحه الطاهرة الى بارئها سبحانه العظيم وليلحق بركب الشهداء والصديقين الذين أفنى عمره يحكي لنا عن أمجادهم ويؤرخ لتضحياتهم.. :نعم ترجل الفارس المؤرخ الضابط العسكري صديق الجزائر وعاشق ثورتها بسام العسلي السوري الأصل ليضيف عنونا جديدا لأجيال الأمة وفرسانها عن معاني البطولة الحقه ومعاني التضحية في سبيل القيم والمبادئ التي آمن بها واحترق كشمعة منيرة لدروبها كتب عن الثورة ولها بل ما نفك يردد بيت شعر تعبر بعمق عن حبه لوطنه الثاني الجزائر منذ عقود حيث أنشد يقول: في عروقي أنتِ في آهاتنا في كل خاطر *** يا دويَّ الصيحة الحمراء في قلب الجزائر! والأستاذ بسام العسلي (1929-2018م) الذي عرفه الشعب الجزائري من خلال سلسلة جهاد شعب الجزائر النفيسة في 15 كتابا انتهى مشوار عطائه بقدر محتوم فوافاه الأجل بمسقط رأسه بدمشق يوم السبت الماضي عن عمر ناهز 89 سنة والمرحوم خريج الكلية الحربية عام 1952 أوفد إلى فرنسا فتخصص في أعمال المظليين وكان من مؤسسي سلاح المظلات في سوريا عمل في الكونغو تحت قيادة هيئة الأمم عام 1960 ثم ملحقا عسكريا في لندن عام 1963 أحيل إلى المعاش مبكرا فتفرغ للكتابة وللتأليف وأصدر ما يزيد عن مئة كتاب احتك بالكثير من الثقافات الغربية وأكثر الثقافات التي تعلمها هي الثقافتين الانكليزية والفرنسية خاصة مع إقامته في فرنسا لفترة دراسته تأثر بها كثيرا وظهر هذا في أدبه وكتابته وإتقانه للغتي فولتير وشكسبير جعل منه مترجما موسوعيا أحيل إلى المعاش مبكرا فتفرغ للكتابة وللتأليف فأصدر ما يزيد عن مئة كتاب بين تأليف وترجمة منها خصوصا: فن الحرب الإسلامي (5 أجزاء) - الأيام الحاسمة في الحروب الصليبية - رجال ومواقف تحت راية الإسلام - الحرب والحضارة -جيش العدوان الصهيوني سلسلة مشاهير قادة الإسلام (15 كتاباً) - سلسلة مشاهير الخلفاء والأمراء (10 كتب)- سلسلة مشاهير قادة العالم (15 كتاباً) - سلسلة جهاد شعب الجزائر (15 كتاباً)- كل هذه المؤلفات تعد لوحدها مكتبة متنقلة تظم موسوعات تاريخية تفتح لنا أبوابا عن تاريخ الأمة العربية والإسلامية وأعمال الفتوحات العظمى التي عاشتها على امتداد أزيد من أربعة عشر قرنا من عمر الزمن هو تاريخ الأمة العربية الإسلامية منذ أن أضاءت الدنيا وأشرقت برسالة الإسلام وحتى يوم الناس هذا.. تبرز الحنكة العسكرية والإدارية التي تميز بها القائد المسلم بحسه العربي الذي فطر عليه في تطبيق مبادئ الحرب في الإستراتيجية والتنفيذ في ميدان المعركة وفي فن القيادة وكفاءتها والروح المعنوية العالية للمقاتلين سواء بسواء في الحروب النظامية أو الحروب الثورية الداخلية وقمع الفتن بإيمان راسخ من الله وتأييده. صدرت كتبه عن أكبر دور النشر العربية تتقدمهم كل من دار الفكر ودار النفائس حيث يتناول الكاتب في مؤلفاته بنظرته الإستراتيجية العميقة وأسلوبه السهل الممتنع سبل معالجة حياة وشخصية الشعوب والأمم وعظمائهم الذين غيروا مجرى التاريخ فيفتتح المشهد بإعطاء فكرة عامة عن الشخصية موضوع الدراسة بلغة سهلة وأسلوب شائق يجعل القارئ يعيش معها ويتابعها في أعمالها لينطلق في دراسة الماضي بعظمته إلى المستقبل المنشود بالتوفيق بين فن الحرب في عهد وسائل القتال البدائية وفن الحرب في عصر الوسائط المتقدمة مبرزا التكامل والتطور في عقيدة القتال عند العرب المسلمين من خلال منجزات قادتهم. والبرهنة على قدرة هذه العقيدة على تكوين قاعدة سياسية وإستراتيجية تتوافق مع متطلبات العصر ومع طبيعة التحديات مهما كان مصدرها أو شكلها أو زمانها ثم تحليلها والخروج منها بالعبر والعظات وهو ما يسمى بالتعبير العسكري ب الدروس المستفادة مبرزا التفاعل بين عقيدة القتال عند العرب المسلمين وبين مجموعة الظروف التي أحاطت بكل منهم في الإطارين الزماني والمكاني. *دراسة تاريخ أمتنا يكشف شراسة الأعداء وتصميمهم على استئصالنا أما حول الخمسة عشر كتابا التي تعرض تاريخ الجزائر من يوم ولادة الجزائر وحتى الاستقلال وقيام الدولة الحديثة مزودة بالصور والخرائط والوثائق التي حصل عليها المؤلف من مصادرها وعن الحوافز لنشر هذه الكتب يقول العسلي منها قلة الكتب التي تتناول جهاد الشعوب العربية والمسلمة في العصور المتأخرة وانصباب التركيز كله على عهد الفتوحات الإسلامية الأولى ربما لكثرة الأيام المشرقة في عهد صدر الإسلام وكثرة الأيام الحالكة في العصور التي تلته مضيفا بقوله إن دراسة تاريخ أمتنا يظهر لنا بوضوح شراسة الأعداء وتصميمهم على استئصالنا من الوجود وتنوع أساليبهم للوصول إلى غاياتهم الدنيئة . كذلك يبين لنا بوضح أيضا أنه لا يصلح آخر أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها موضحا ذلك بقوله ما ارتفعت راية الجهاد مرة وتوحد المسلمون تحت لوائها منذ عهد محمد صلى الله عليه وسلم إلا وكان النصر حليفهم وما استكانوا وعطلوا الجهاد وشغلوا بأنفسهم عن أعدائهم إلا تسرب الوهن إلى صفوفهم وظهر عليهم أعداؤهم فأذاقوهم مرارة الذل والاحتلال والاستعباد.. مذكرا أن بلاده سوريا او بلاد الشام عموما كانت يومها ملاذا ومنفى لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه من زعماء المقاومة وعلماء الجزائر إبان الاستكبار الفرنسي بدءا من ملاحم الأمير عبد القادر الجزائري ورجال الشيخ المقراني وطاهر الجزائري إلى عائلة المبارك أي المعاصرة كل من الدكتور محمد المبارك ومازن المبارك والقائمة طويلة كانت يومها سوريا الشهباء المضيافة بلد الصمود والمقاومة بكل معانيها وتفاصيلها للعرب والمسلمين *الدموع والمداد وحدها لا تغسل جراح الأمة سورية الأمس كانت فعلا حكاية فخر للأجيال أما سوريا اليوم هاهو يرحل عنها بسام العسلي وقد أصبحت في العشرية الاخيرة حكاية الحاضر المر يصعب عليه وعلى غيره الكتابة عنها وعن جرحها ولا حتى عن مستقبلها المنظور.. فسوريا اليوم لكل شبر من أراضيها رواية مؤلمة وفي كل بيت جرح نازف وأحياناً جراح كثيرة متعددة وفي كل قرية قصص تدمى لها القلوب هجرة وتمزق وتشرد لشعب برمته.. وبكلمة واحدة نزيف سورية اليوم قصة أمة مكلومة مشتتة تروي حكايات اغرب من الخيال.. حكاية تاريخ شهيد اختار أقصر الطرق نحو رحاب المجد والخلود حكاية آهات طفل يرقب عودة أبيه كل مساء حكاية يوميات أم مفجوعة بفلذة كبدها حكاية تاريخ زوجة ودعت شريك عمرها حكاية أخ وحبيب وصديق لوّعهم الفراق نعم رغم كل الآلام والأوجاع لا يسعنا ألا أن نترحم على موتى سورية الشقيقة داعينا الله أن يفرج كربهم عاجلا غير أجل وما ذلك على الله بعزيز. *من باب الوفاء لفضل وجهد العلماء ومن باب الوفاء لفضل علماء سوريا عموما على الجزائر ولفضل صاحب سلسلة جهاد شعب الجزائر خصوصا الذي خدم وطننا الإسلامي بعلمه وجهده وخص الجزائر بعلمه وفكره أن تسمى مؤسسة تربوية أو ثقافية تابعة لوزارة التربية أو الثقافة أو المجاهدين باسم المرحوم العالم المجاهد بسام العسلي. ومن باب الإنصاف له أيضا أن ينظم المركز الوطني للدراسات التاريخية بالاشتراك مع جمعية العلماء المسلمين أو اي منبر إعلامي ندوة تكريمية علمية تتجدد كل سنة للأجيال حول جهود المرحوم بسام العسلي في إماطة اللثام عن تاريخنا الإسلامي يشارك فيها أصدقاؤه وتلاميذه من الجزائر وخارجها وهم كثيرون- ولله الحمد.. داعينا الله تعالى في الختام أن يرحم عبده المجاهد العالم العارف بسام العسلي ويلهم تلاميذه وإخوانه الصبر والسلوان وأن يتغمده بواسع رحمته وأن يجازيه خير الجزاء عما قدمه للإسلام والمسلمين طيلة حياته المليئة بالمآثر و إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ.