بقلم: علي محمد فخرو ما إن ينتصر فريق على فريق آخر في معارك الجنون التي ابتلى بها الوطن العربي في السنين الأخيرة حتى يطل العقل الجمعي العربي برأسه ليلعب دوره في ما سيحدث بعد أنتهاء تلك المعارك. لنذكًر أنفسنا بأن العقل الجمعي العربي هو السلطة الذهنية والسلوكية الواعية وغير الواعية المنطقية وغير المنطقية التي تكوًنت عبر القرون من خلال الأفكار وسلوكيات العادات والتقاليد والأساطير الخرافية لتصبح مرجعية مقبولة من الغالبية ولتتحكم في نوع تصُرفات الأفراد والجماعات تجاه مختلف المواقف الحياتية وتجاه بعضهم البعض. اعتماداً على هذا المكون أو ذاك من مكونات العقل الجمعي العربي يتصرف المنتصرون دون إعطاء أي اعتبار لما تأمر به الديانات من عفو ورحمة وقسط أو ما تنص عليه القوانين الوضعية من عدالة وتسامح أوما تستهجنه أعراف العصر الذي نعيش فيه. لنمعن النظر في ممارسة الاعتداءات الجنسية من قبل الرجال المنتصرين على نساء الجماعة المهزومة أو في التعامل حسب تقاليد ثارات العصبية القبلية أو المذهبية تجاه المهزومين إذا كانو من مذهب ديني آخر أو ينتمون لأصول عرقية أخرى أوفي نهب محتويات متاجر ومساكن الأفراد غير المحاربين الذين لا حول لهم ولا قوة بل وعادة من المغلوبين على أمرهم في معارك الصراعات التي أشعلتها في العادة أقلية لها أجنداتها ومصالحها الخفية. يحدث كل ذلك بالرغم من الآية القرآنية الصريحة من أنه ولا تزر وازرة وزر أخرى أو القاعدة القرآنية بأنه إذا جنح المهزوم إلى السلم فإن على المنتصر أن يجنح هو الآخر إلى السلم وهما قاعدتان تتناقضان كلياً مع عادات الثأر أو الانتقام الأعمى أو اعتبار المهزوم وما يملك غنيمة من غنائم الحرب. إضافة بالطبع إلى تلك القواعد الدينية الأخلاقية الرفيعة فإن قوانين الحروب الحديثة تعارض كل تلك الممارسات وتعتبرها انتهاكات لحقوق وسلامة الأفراد المدنيين الأبرياء بل وتعتبرها جرائم ضد الإنسانية. نحن إذن أمام عقل جمعي ارتبط تاريخياً بسلوكيات البداوة السلبية البدائية وبالحضور الدائم للعلاقات السلطوية الجائرة في مجالات الحكم والحياة المدنية وبالكثير من الأطروحات الفقهية المتخلفة وصراعاتها السياسية وبالاستعمالات الانتهازية للأحاديث النبوية وبالقراءات الخاطئة للنصوص القرآنية وبالوقوف في حيرة وتردد أمام أطروحات الحداثة والإيديولوجيات في حضارة الآخر سواء أكان في الغرب أم في الشرق. والنتيجة لكل تلك المشاكل الذاتية المرتبطة بتاريخ العرب وثقافتهم وسيرورة حياة مجتمعاتهم أن دخل العقل الجمعي العربي في أزمة مفاهيم مستفحلة شملت فيما شملت مفاهيم الدولة والمواطنة والقانون والديموقراطية والسلام والحرب. في ظل مثل ذلك التراث الذي تراكمت جوانبه السلبية عبرالعصور وأمام أزمة المفاهيم التي تُفقر الحياة العربية الحديثة لا يمكن إلا أن يرى الإنسان مايراه من ارتكاب الموبقات في الصراعات العبثية التي تملأ سماء الوطن العربي وتنقله شيئاً فشيئاً إلى عوالم الهمجية. لقد كتب الكثير عن أمراض العقل الجمعي العربي وما ينتجه من ثقافة. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر وطوابير الإصلاحيين تحلًل وتنتقد وتقدم العلاجات المعقولة. البعض أكد أن لابد من الانتقال إلى ثورة ثقافية كبرى تسمح بالقطعية مع الكثير من تصورات الماضي وأفكاره حتى نستطيع تقليص الهوة بيننا وبين الآخر المتقدم. ويعتبر هؤلاء أن هكذا ثورة هي المدخل الأساسي للتغييرات السياسية المطلوبة. البعض الآخر يرى أن البداية هي في حدوث ثورة سياسية تنقل المجتمعات العربية إلى نوع من الديموقراطية السياسية والاقتصادية المعقولة العادلة إذ بدون حل لإشكالية السياسة بما تأتي به من حريات وقوانين وحكم رشيد فان إحداث ثورة ثقافية يصبح شبه مستحيل. وفي جميع الأحوال فإن الانتقال إلى الثورتين سيحتاج إلى نخبة تتبنى وتناضل وتقود وهذا هو مربط الفرس في الحياة العربية الحالية. ذلك أن أحداث وثورات الربيع العربي عبر السنوات الثماني الماضية أظهرت غياباً مفجعاً لمثل هكذا نخبة على المستويين السياسي النضالي والثقافي الفكري. نحن هنا نتكلم عن نخبة فاعلة مندمجة في حياة الناس اليومية قادرة على إقناع الإنسان العربي بأن يتبعها ويسير إلى جنبها ويشدٌ أزرها قبل أن يمارس محاسبتها. النخبة التي نتحدث عنها تحتاج أن تستوعب إشكاليات التاريخ والعقل العربي الجمعي وتشابك الدين مع السياسة والثقافة ونوعية التعامل مع حداثة الاخرين لبناء الحداثة العربية الذاتية والعمل التكاتفي مع نخب الآخرين. إنها مهمة تاريخية كبرى إن لم تنجز فإننا سنعيش سنينا طويلة مقبلة مع أولاد وأحفاد أمثال القاعدة و تنظيم الدولة (داعش) والنصرة وغيرها من الأسماء الاستخباراتية وسنرى صوراً أكثرشيطانية في تعامل المنتصرين مع المهزومين . لن تستطيع الأمة الخروج من هذا المصير إنْ تراكم الكلام وقلَّ الفعل. إنها نذر لمصير بائس لشباب الأمة العربية التائهين في عوالم الثقافة العولمية الاستهلاكية البليدة.