الشيخ أبو اسماعيل خليفة رُوي أن المأمون قد وكّل الفرّاء يلقّن ابنيه النحو فلما كان يوما أراد الفراء أن ينهض إلى بعض حوائجه. فابتدرا إلى نعل الفراء يقدّمانه لَهُ فتبارى أيهما يقدمه ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فردة فقدماها وكان المأمون له على كل شيء صاحب خبر فرفع ذلك إليه في الخبر فوجّه إلى الفراء فاستدعاه. فلما دخل عليه قال لَهُ: من أعز النَّاسَ؟. قَالَ: ما أعرف أعزُّ من أمير المؤمنين. قَالَ: بلى من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين حتى رضي كل واحد منهما أن يقدم فردة. قَالَ: يا أمير المؤمنين لقد أردت منعهما من ذلك ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقًا إليها أو أكسر نفوسهما عن شريفة حرصا عليها وقد يروى عن ابن عباس أنه أمسك للحسن والحسين ركابيهما حين خرجا من عنده. فقال له بعض من حضر: أتمسك لهذين الحديثين وأنت أشرف منهما؟ قال لَهُ: اسكت يا جاهل لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل. فقال له المأمون: لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لوما وعتبا وألزمتك ذنبًا وما وضع ما فعلاه من شرفهما بل رفع من قدرهما وبين عن جوهرهما ولقد تبينت لي مخيلة الفراسة بفعلهما فليس يكبر الرجل وإن كان كبيرا عن ثلاث: عن تواضعه لسطانه ولمعلمه العلم ولقد عوضتهما عما فعلاه عشرين ألف دينار ولك عشرة آلاف درهم حسن أدبك لهما. إيه .. إنها التربية المفقودة في زماننا هذا.. والله المستعان.. وإنّ جواب المأمون هذا ليعكس نظرة الإسلام والأمة الإسلامية كلها آنذاك إلى العلم والعلماء وما كانوا عليه رعاةً ورعيةً وآباء ومعلمين من العناية والاهتمام والتعظيم والإجلال للعلم وأهله..