القضاء على البيروقراطية هدف أساسي.. كيف نتصدى لعدم الكفاءة في الإدارة العمومية تحدثنا سابقا من خلال عدة مقالات عن الكفاءة هذه القضية التي تعتبر حديث الساعة ومن أبرز التحديات التي تواجه الإدارة. إن قضية الكفاءة ليس من السهل إدراجها وفق مضمون شكلي وظرفي مؤقت وإنما لها خصوصية وأهمية كبيرة التي تدفع بالخبراء والقائمين على الموارد البشرية إلى وضع كل الإمكانيات المادية والمعنوية في خدمة هذه القضية. قد يطول الحديث عن هذه القضية (الكفاءة) وذلك نظرا لما تتميز به من خصوصية وأهمية كبيرة وأولوية قصوى خاصة في ظل الظروف التي تمر بها الإدارة وبالذات الإدارة العمومية في الجزائر ومرحلة الجمود والروتين والتدهور حتى التي تحاول تخطيها والإنتقال إلى مرحلة اخرى تتميز بالإنفتاح والمرونة الشفافية والمساواة وذلك بالقضاء على البيروقراطية التي أصبحت الطابع الذي يميز الإدارة العمومية في الجزائر. من خلال هذه النظرة الوجيزة وبالتحديد النقطة الاخيرة والمتعلقة بالبيروقراطية والفساد الإداري الذي نتج عنها التدهور الإداري يمكننا طرح تساؤل أو عدة تساؤلات لربما نجد لها تفسيرا أو إجابة منطقية واقعية أكثر منها نظرية. ما هو دور الكفاءة في القضاء على البيروقراطية والفساد الإداري؟ ما هي الكفاءات اللازمة للقيام بهذا الدور؟ هل الكفاءات التقنية المتخصصة كفيلة وكافية لرقي الإدارة وعصرنتها؟ هل الكفاءة حاضرة فعلا في الإدارة العمومية أم هي الغائب الأكبر؟ نظرة Claude Leboyer في هذا الصدد لقد لفت انتباهي نظرة أحد المختصين في مجال الموارد البشرية Claude Levy Leboyer من خلال كتابه Gestion des Competences حيث يرى أن إعطاء دور مركزي للكفاءات في إدارة الموارد البشرية يعني الاعتراف ضمنيًا بأن فقدان الكفاءة يدين المعنيين (مسؤولي الموارد البشرية) والإدارة التي توظفهم ويجعلهم مسؤولين عن هذه القضية. كما يرى C.Leboyer أن عدم الكفاءة يعني أن المعرفة المكتسبة من خلال الخبرة لم تعد لها قيمة بسبب التقدم والتنوع التكنولوجي العالمي. حيث أن الاعتراف بحقيقة هذا الوضع أو هذه الأزمة هو بمثابة الاستعداد لمواجهته الذي أصبح أمرا ضروريا سواء على المستوى الفردي أو التنظيمي. ومن حيث مصطلح ومعنى الكفاءات يتعين إنجاز المهام الصعبة المعقدة ليس من حيث المهام الصغيرة التي يمكن إنجازها بسرعة وسهولة ولكنها تجعل الكفاءة قليلة أهمية والفعالية وإن لم أقل منتهية الصلاحية. لذلك يجب أن يضاف عنصر التنوع والمرونة للكفاءات الفردية وهذا ما يعبر عن اهتمام الإدارة وتراجعها عن استراتيجيتها من حيث الكفاءات اللازمة وتحديدها وضمان تطورها على المستوى الفردي. بين الكفاءات التقنية والكفاءات اللينة لقد لاحظنا خاصة في الآونة الأخيرة تركيز الإدارات ممثلة بالقائمين على الموارد البشرية الإهتمام أكثر بالكفاءات التقنية المتخصصة Hard Skills والعمل على إيجاد طرق ووسائل وبرامج وأنظمة لاكتسابها وجعلها أساس العمل وقوام الإدارة. حقيقة الأمر والواقع ان الإدارة العمومية الجزائرية بحاجة ماسة وملحة وحتى مستعجلة للكفاءات التقنية المتخصصة اكتسابها تنظيمها تكوينها وتوجيهها هي خطوات ومراحل لا بد منها من أجل الإرتقاء بالإدارة وجعلها إدارة حديثة عصرية بأتم معنى الكلمة. لكن هل هذه الكفاءات التقنية المتخصصة هي وحدها قادرة على الرقي بالإدارة والقضاء على البيروقراطية والفساد الإداري بصفة عامة؟ من منظور عملي يكمن دور هذه الكفاءات في القيام بالمهنة والعمل أو المهمة بشكل صحيح وجيد. يعني حسن تسيير العمل وزيادة المردودية وحتى ربح الوقت خاصة في ظل وجود التكنولوجيا. إن اكتساب هذه الكفاءات ليس بالأمر الصعب على الإدارة حيث يمكن وضع منظومة تكوين كفيلة بذلك كما يمكن اكتساب هذه الكفاءات عن طريق الخبرة لكن يبقى التكوين أحسن حل وأفضل طريقة. الإشكالية والأزمة التي أراها شخصيا وهي حقيقة الإدارة العمومية ليست قلة أو انعدام الكفاءات التقنية وإنما الكفاءات اللينة والتي يعبر عنها ب Soft Skills والمتمثلة في (الكفاءات السلوكية الكفاءات العلائقية..). إن الإفتقار لهذه الكفاءات هو الذي أدى بالإدارة إلى التدهور بل اكثر من ذلك أدى إلى تفشي ظاهرة البيروقراطية والفساد الإداري الذي يزداد حدة وانتشارا. هذه الكفاءات والتي تعتبر شخصية فردية أكثر منها جماعية لأنها تتعلق بشخصية الموظف بطريقة تفكيره ونظرته اتجاه وظيفته اتجاه زملائه اتجاه محيطه وإدارته. سبب انعدام الكفاءات اللينة إن انعدام هذه الكفاءات سببه نفسي اجتماعي لا يمكن للموظف القيام بعمله بطريقة صحيحة وبكل نزاهة إذا كان يفتقر لأبسط شروط والظروف الإجتماعية الجيدة حتى وإن كان يكتسب الكفاءة التقنية المتخصصة اللازمة لأداء وظيفته هناك شيء آخر أكثر حساسية وأهمية يمنعه بتجسيد كفاءته التقنية على أرض الواقع ويحول دون إنجاز مهمته. بل أكثر من ذلك انعدام الظروف الإجتماعية الجيدة والوسائل والإمكانيات وكل العوامل التي تشكل البيئة التي يمارس فيها الموظف نشاطه تدفعه إلى التفكير بطريقة خاطئة خارجة تماما عن نطاق أخلاقيات المهنة والشخصية المثالية للموظف. انعدام الظروف المكونة للبيئة المهنية الجيدة يولد لدى الموظف نوع من الإيديولوجية والفكر الفاسد الذي يؤدي بدوره إلى ظهور البيروقراطية وكل أشكال الفساد الإداري. من جهة اخرى انعدام الكفاءات السلوكية والفكر الوظيفي المثالي سببه انغلاق الإدارة على نفسها وتقييد عملها على فئة معينة هذا الإتجاه ادى إلى خلق فوارق وطبقات بين الموظفين في الإدارة الواحدة فئة قليلة مستفيدة وفئة كبيرة مقصية مهمشة. هذا التقييد والإنغلاق الإداري أدى إلى انعدام الثقة والتواصل وحتى العمل الجماعي. في هذا الصدد تطرق C.LEBOYERإلى فكرة تقييد الكفاءات وركز نظرته على نظرية Taylor حتى قال أن تقييد الكفاءات التنظيمية لتكون مجرد مجموع كفاءات فردية للإدارة هو في الواقع العودة إلى نمط تايلور الذي وفقًا له في كل موقف يوجد فقط سلوك واحد كفء one best way والذي يجب بالتالي إعادة إنتاجه ومضاعفته. حقيقة هذا ما هو معروف عن نظرية تايلور التي أهملت الجانب النفسي والسلوكي والعلائقي للموظف. تنوع الكفاءات لكي تكون الإدارة قادرة على توقع التغييرات وتطوير الخطط المستقبلية وإنشاء حلول أصلية والقدرة باستمرار على تطوير الكفاءات المناسبة لا يمكن لها أن تعتمد على نسبة معينة من الكفاءات الموجودة. من خلال هذه المكانة يثبت مفهوم الكفاءة فائدته لسببين. لأن الكفاءات تكمل بعضها البعض بطريقة عملية أكثر بكثير من المهارات والسمات الشخصية. على سبيل المثال قد يكون الحصول على قرار جيد من خلال وضع موظفين لا يعملان معا واحد يتمتع بالسلطة وآخر لا يعني وجود نظرتين ومركزين وفكرتين مختلفتين ينتج عنه طرح وقرار جيد. هذا التنوع والتواصل هو ما يخلق ثقة وينتج العمل المتقن المتكامل. وثانيًا لأن الكفاءات بحكم تعريفها أكثر مرونة من المهارات والسمات الشخصية. بالطبع يمكن للشخص اكتساب الثقة بالنفس أو حتى تطوير مهاراته. ولكن قد يكون من الأهم بالنسبة للحياة اليومية للإدارة على سبيل المثال اكتساب الكفاءات اللازمة لإدارة الوقت بشكل فعال. بمعنى آخر يمثل تنوع الكفاءات ومرونتها قوة للإدارة والمنظمة. ولكن بشرط أن يكون لديها المعرفة والدراية اللازمة للاستفادة من هذا التنوع ولضمان انضمام مختلف الأفراد بشكل فعال واستخدام واستغلال مواردهم الشخصية وجعلها جزء من الفرق والتنظيمات التي تشكل هيكل الإدارة. من وجهة النظر هذه فإن الأولوية تأخذ بعين الاعتبار جميع الكفاءات الفردية وكذلك التأكيد على الإجراءات والآليات التي تهدف إلى تطوير هذه الكفاءات وكذلك ارتباطها وتأقلمها مع استراتيجيات الإدارة. إن الاتجاه الحديث للإدارات هو السعي وراء التنوع. صحيح أنه من الأسهل العمل مع الزملاء الذين يتم تبادل ثقافاتهم وآرائهم ووجهات نظرهم. وهذا ما يفسر ضرورة العمل على زرع ونشر ثقافة الإدارة داخليا وخارجيا. إن فكرة الثقافة التنظيمية ذاتها تستحضر فكرة المعيار الذي يحكم أولويات العمل ويشجع السلوك على أن يتم تجسيده في قالب واحد. إن الاستخدام العشوائي لآليات وأدوات تقييم الموظف وتطوير الحياة المهنية وكذا تكوين وتدريب الموظفين على أن يكونوا متشابهين قدر الإمكان مع بعضهم البعض والتأقلم مع الموارد الموجودة يمكن أن يكون له آثار ضارة. في المقابل فإن استخدام مفهوم الكفاءة يفتح الباب أمام التنوع والمرونة. للتنوع لأن الكفاءات غالبًا ما تكون تقنية متخصصة ومحددة دائمًا لأنشطة الإدارة وبالتالي فهي مكملة لبعضها البعض. المرونة لأن مؤشرات ومراجع الكفاءات ليست أدلة ثابتة ولكنها قوائم يمكن إكمالها وفقًا للاحتياجات التي يفرضها السياق الاقتصادي والتكنولوجي. يجب أن تجعل الطبيعة والصفة الديناميكية للكفاءات وحقيقة أنها تستجيب لمواقف محددة وسيطًا ضروريًا بين استراتيجيات الإدارة وتسيير مواردها البشرية. خلاصة القول ما لوحظ ولازال يلاحظ هو الإفتقار للكفاءات التقنية التي تتناسب مع التطورات الحديثة للوظيفة والمهن المختلفة والنشاطات التي تزداد تنوعا وتعقيدا يوما بعد يوم. لكن الأخطر من ذلك هو الإفتقار وانعدام الكفاءات السلوكية والعلائقية والتي هي قضية يجب إعطاءها كل الإهتمام والأولوية اللازمة. هذه القضية التي تتفرع عنها عدة إشكالات سواء من حيث طبيعتها مصدرها أسبابها وحتى كيفية معالجتها وإيجاد الحلول الناجعة. إن العمل الواجب القيام به اليوم وبصورة مستعجلة هو تحسين المنظومة الإجتماعية في البيئة التي تمارس فيها الإدارة العمومية نشاطاتها وتوفير كل الظروف اللازمة لتشجيع السلوك المثالي وخلق كفاءة سلوكية لدى الموظف. وضع استراتيجية طويلة الأمد كفيلة بضمان الشفافية والمساواة ومشاركة كل الفاعلين في تطوير عمل الإدارة وازدهارها وعدم إقصاء أي كان واستغلال الجميع دون تمييز وكذلك إعطاء الفرصة للجميع دون تمييز. إنها خطوات يمكن اتباعها بما انها سهلة التجسيد يكفي فقط الإرادة إن أردنا محاربة عدم الكفاءة في الإدارة العمومية التي عانت ولا تزال تعاني من هذه الظاهرة.