صفحات مشرقة من التاريخ الإسلامي مدينة الزهراء.. أعجوبة الأندلس يذكر المؤرخون رواية قصصية مفادها أن الخليفة الناصر لدين الله ماتت له سريَّة وتركت مالًا كثيرًا فأمر أن يفك بذلك المال أسرى المسلمين وطلب في بلاد الإفرنج أسيرًا فلم يوجد فشكر الله تعالى على ذلك فقالت له جاريته الزهراء -وكان يحبُّها حبًّا شديدا: اشتهيت لو بنيت لي مدينة تسميها باسمي وتكون خاصة لي. فبناها تحت جبل العروس من قبلة الجبل وشمال قرطبة.. وأتقن بناءها وأحكم الصنعة فيها وجعلها مستنزها ومسكنًا للزهراء وحاشية أرباب دولته ونقش صورتها على الباب فلمَّا قعدت الزهراء في مجلسها نظرت إلى بياض المدينة وحسنها في حجر الجبل الأسود فقالت: يا سيِّدي ألا ترى إلى حسن هذه الجارية الحسناء في حجر ذلك الزنجي؟ فأمر بزوال ذلك الجبل فقال بعض جلسائه: أعيذ أمير المؤمنين أن يخطر له ما يشين العقل سماعه لو اجتمع الخلق ما أزالوه حفرًا ولا قطعًا ولا يزيله إلاّ من خلقه فأمر بقطع شجره وغرسه تينًا ولوزًا ولم يكن منظر أحسن منها ولا سيِّما في زمان الإزهار وتفتُّح الأشجار . وأسباب بناء مدينة الزهراء تتحدد بالدوافع الآتية: 1- أريد لهذه المدينة أن تكون مقرًا للخلافة الجديدة. 2- الابتعاد عن صخب العاصمة قرطبة بعد أن ضاقت مرافقها نتيجة الزخم السكاني الذي كان يزداد سنويًا. 3- بناء المدن صفة وصف بها الخلفاء والسلاطين العظماء تخليدًا لعصورهم المجيدة. 4- عرف عن الناصر كلفه ببناء القصور والاعتناء بتنميقها وتزيينها وصرفه الأموال الكثيرة في هذا المجال. *بناء مدينة الزهراء وبدأ ببناء الزهراء في محرم سنة 325ه/ نوفمبر سنة 936م وخوَّل الناصر ولي العهد الحكم المستنصر بمهمة الإشراف على بنائها وقد عمل في بناء الزهراء جيش من العمال والمهرة أشرف عليهم خيرة المهندسين والمعماريين في ذلك الوقت ولا سيما من بغداد والقسطنطينية. يذكر المؤرخون أنه كان يتصرف في عمارة الزهراء كل يوم من الخدم عشرة آلاف رجل ومن الدواب ألف وخمسمائة دابة وكان من الرجال من له درهم ونصف ومن الدرهمان والثلاثة وكان يصرف فيها كل يوم من الصخر المنحوت المعدل ستة آلاف صخرة سوى الأجر والصخر غير المعدل. وقامت مدينة الزهراء على مسطح من الأرض طوله من الشرق إلى الغرب ألفان وسبعمائة ذراع وعرضه من القبلة إلى الجنوب ألف وخمسمائة ذراع. وقدرت النفقة على بنائها بثلاثمائة ألف دينار كل عام طوال عهد الناصر هذا عدا ما أنفق عليها في عهد ولده الحكم وانتقل إليها الناصر بحاشيته وخواصه وخدمه في سنة 336ه. *وصف مدينة الزهراء وصف ابن خلكان مدينة الزهراء بقوله: والزهراء من عجائب أبنية الدنيا أنشأها أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الملقب الناصر أحد ملوك بني أمية بالأندلس بالقرب من قرطبة في أول سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ومسافة ما بينهما أربعة أميال وثلثا ميل وطول الزهراء من الشرق إلى الغرب ألفان وسبعمائة ذراع وعرضها من القبلة إلى الجنوب ألف وخمسمائة ذراع وعدد السواري التي فيها أربعة آلاف سارية وثلثمائة سارية وعدد أبوابها يزيد على خمسة عشر ألف باب. وكان الناصر يقسم جباية البلاد أثلاثًا فثلث للجند وثلث مدخر وثلث ينفقه على عمارة الزهراء وكانت جباية الأندلس يومئذ خمسة آلاف دينار (أربعمائة ألف وثمانين ألف دينار) ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستون ألف دينار وهي من أهول ما بناه الإنس وأجله خطرًا وأعظمه شأنًا . فقد اشتملت مباني مدينة الزهراء على أربعة آلاف سارية ما بين كبيرة وصغيرة حاملة ومحمولة جلب بعضها من روما والبعض الآخر من القسطنطينية ومصاريع أبوابها كانت تزيد على خمسة عشر ألف باب ملبسة بالحديد والنحاس المموَّه. وجلب الرخام المستخدم في بنائها من مدن اشتهرت بهذه المادة فمنه ما جلب من مدينة المرية ورية وأصناف منه جلبت من المغرب العربي ومن مدينتي صفاقس وقرطاجنة واجتهد الناصر باختيار التحف النادرة من الشام والقسطنطينية. وأنشئت بالزهراء مجالات فسيحة للوحوش فسيحة الفناء متباعدة السياح ومسارح للطير مظللة بالشباك واتخذ فيها دارا لصناعة آلات من آلات السلاح للحرب والحلي للزينة وغير ذلك من المهن وأمر بعمل الظلة على صحن الجامع وقاية للناس من حر الشمس. *قصر الزهراء الذي لم يبن مثله وابتنى عبد الرحمن الناصر في حاضرته الجديدة الزهراء قصرًا منيف الذرى لم يدخر وسعًا في تنميقه وزخرفته حتى غدا تحفة رائعة من الفخامة والجلال تحف به رياض وجنان ساحرة وأنشأ فيه مجلسًا ملوكيًا جليلا سمي بقصر الخلافة. صنعت جدرانه من الرخام المزين بالذهب وفي كل جانب من جوانبه ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب والجوهر وزينت جوانبه بالتماثيل والصور البديعة وفي وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق وكانت الشمس إذا أشرقت على ذلك المجلس سطعت جوانبه بأضواء ساحرة. وزود الناصر مقامه في قصر الزهراء وهو الجناح الشرقي المعروف بالمؤنس بأنفس التحف والذخائر ونصب فيه الحوض الشهير المنقوش بالذهب الذي أهدي إليه من قيصر القسطنطينية والذي جلبه من هنالك إلى قرطبة ربيع الأسقف وجلب إليه الوزير أحمد بن حزم من الشام حوضًا ثانيًا رائعًا يقوم عليه اثنا عشر تمثالا من الذهب الأحمر المرصع بالجواهر وهي تمثل بعض الطيور والحيوانات وتقذف الماء من أفواهها إلى الحوض. وقد دون هذه الروايات والأوصاف العجيبة التي تشبه أوصاف قصور ألف ليلة وليلة المسحورة عن قصر الزهراء أكثر من مؤرخ معاصر وشاهد عيان وأجمعت الروايات على أنه لم يبن في أمم الإسلام مثله في الروعة والأناقة والبهاء. وذُكر أن عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألفًا وسبعمائة وخمسين فتى وعدد النساء والحشم بالقصر ستة آلاف وثلاثمائة يصرف لهم في اليوم ثلاثة عشر ألف رطل من اللحم سوى الدجاج والحجل وغيرها. *مسجد الزهراء وفضلًا عن القصر فقد بنى في الزهراء مسجدًا طوله من القبلة إلى الجوف -عدا المقصورة- ثلاثون ذراعًا وعرض البهو الأوسط من الشرق إلى الغرب ثلاثة عشر ذراعًا وزوده بعمد وقباب فخمة ومنبر رائع الصنع والزخرف فجاء آية في الفخامة والجمال تم بناؤه وإتقانه في مدة ثمانية وأربعين يومًا وكان يعمل به أكثر من ألف عامل منهم ثلاثمائة بناء ومائتا نجار والبقية من الأجراء وبقية العمال المهرة. واستمر العمل في منشآت الزهراء طوال عهد الناصر أي حتى وفاته في سنة 350ه واستمر معظم عهد ابنه الحكم المستنصر واستغرق بذلك من عهد الخليفتين زهاء أربعين سنة ولكنها غدت منزل الملك والخلافة مذ تم بناء القصر والمسجد في سنة 329ه وبذا كانت -إلى جانب قرطبة- أول منزل للخلافة الإسلامية بالأندلس. والخلاصة أن الناصر أراد أن يجعل من الزهراء قاعدة ملوكية حقة تجمع بن فخامة الملك الباذخ وصولة السلطان المؤثل وعناصر الإدارة القوية المدنية والعسكرية.