في مدينة الأبيض سيدي الشيخ فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ -الجزء الثالث والأربعون بعد المائة- بقلم: الطيب بن ابراهيم - رئيس الإرسالية الأب فوايوم يغادر الأبيض نهائيا الأب روني فوايوم مهندس أول تجربة تنصيرية في التاريخ في مدينة الأبيض سيدي الشيخ ومؤسس إرسالية إخوة يسوع الصغار بمدينة الأبيض ورئيسها وصاحب المبادرات والمغامرات حل بالأبيض لأول مرة مع نهاية شهر سبتمبر سنة 1933 وبدأ ببناء مقر إرساليته وكنيستها وأشرف على خدماتها ورسالتها ما يقرب من خمس عشرة سنة وخلال هذه المدة عرفت الإرسالية شهرة عالمية وزارتها وتعاونت معها شخصيات علمية وكنسية كبيرة من جميع أنحاء العالم كالمستشرق لويس ماسينيون والمستشرق المصري جورج شحاته قنواتي وغيرهما. وأفرغ كل طاقته وجهده من أجل أن تثمر تجربته لكن اعتقد أنه اكتشف خيبة أمله وفشله فقرر مغادرة المكان وترك حقل تجربته مدينة الأبيض لغيره ليجرب حظه ورحل إلى موطنه الأصلي فرنسا وليعود لحياته العادية بعد أن أرغم نفسه على لبس عباءة صوفية وفوقها برنوسا صوفيا وغطى رأسه بشاش وذلك كله في صحراء حارقة تتجاوز حرارتها صيفا أحيانا أكثر من أربع وأربعين (44) درجه مئوية كما حدث صيف سنة 2021 (أحر سنة في تاريخ الكرة الأرضية) وهو القادم من فرنسا والغريب على ذلك المناخ الذي يرهق صيفا حتى سكانه الأصليين وهذا كله كان من أجل وهم كان يؤمن به!. *تفاصيل مهمة لم يدّخر الأب فوايوم جهدا في إنجاح تجربته وأفرغ كل ما كان بجعبته وبعد أن اطمأن على الأب ميلاد خليفته حان وقت رحيله فقرر العودة لطبيعته ومحيطه والتخلي عن تَعَرُّبه وتَصًحُّره وبَرنُوسه وكان بصحبته رفيق عمره وشريكه في مشروع تعريبه المستشرق لويس غادري. غادر الزعيمان الإرسالية وبمغادرتهما خلت من التكوين العلمي والتنصير المنهجي حيث كانا بالإضافة لتكوينهما الديني يحملان شهادة الدكتوراه ويكتبان ويقرآن اللغة العربية وبمغادرتهما خلت الإرسالية من وجود أي مثقف كبير بوزنهما وأصبح تكوين المبتدئين بسيطا وأصبح المتخرجون مهنيون ميدانيون أكثر منهم رجال فكر وثقافة فكان منهم الفلاح والحداد والنجار والخياط وراعي الغنم يتعاملون مع السكان في الزراعة والرعي وتربية المواشي والتلحيم والحدادة والخياطة وما شابه ذلك وهذا عكس المستوى العلمي الذي كان سائدا في عهد الأب فوايوم وأستاذ الفلسفة في جامعة تولوز لويس غاردي. حيث أن الأب ميلاد عيسى نفسه أكمل تعليمه الجامعي العالي في الأبيض سيدي الشيخ تحت إشراف لويس غاردي وجاءته لجنة أساقفة وقساوسة من الجزائر ومن فرنسا رفقة أفراد عائلته وتم ترسيمه قسا بالأبيض في سابقة فريدة من نوعها. كانت مناسبة رحيل الأب فوايوم مناسبة كبيرة ومؤلمة للمتعاونين معه ولنزلاء الإرسالية ومرتاديها فهو شخصية مثيرة ومميزة وعالمية وبمناسبة مفارقته لإرساليته نهائيا وقبل الرحيل بيوم واحد اجتمع يوم الثلاثاء 18 فبراير سنة 1947 مع كل زملائه وأصدقائه من إخوة وأخوات وكانت من بينهم الأخت ماجدولين أوتان رئيسة إرسالية الأخوات الصغيرات القائلة أن اجتماعهم الأخير مع الأب فوايوم كان اجتماع وداع له وأنه في اليوم الموالي الأربعاء 19 فيفري سنة 1947 غادر الأب فوايوم الإرسالية ومدينة الأبيض نهائيا إلى فرنسا. *فوايوم يؤسس إرسالية جديدة بفرنسا لم يذهب الأب فوايوم إلى فرنسا من أجل الراحة وكعادته التي عُرف بها في الأبيض كرجل لا يكل ولا يمل. انطلق الأب فوايوم من جديد في مشروع جديد تقول عنه شريكته في الحقل التنصيري الأخت ماجدولين رئيسة أخوات يسوع الصغيرات أنه مباشرة بعد التحاقه بفرنسا استقر في مدينة إيكس أونبروفانس Aix-EnProvence وبعد شهرين فقط من التحاقه بمقر إقامته الجديد أسس مع مجموعة من الإخوة بتاريخ 2 ماي سنة 1947 إرسالية للعمال وتزعم رئاستها. كانت أخبار الأب فوايوم تُتابع من طرف شركائه في إرساليته التي أسسها بالأبيض خاصة زميلته رئيسة إرسالية الأخوات مادلين أوتان حيث تقول عنه أنه بعد تأسيس إرسالية العمال بإيكس اوبروفانس قرر أن يصبح عاملا والتحق ببعض عمال شركة مختصة في طلاء المنازل كانت مسئولة عن إصلاح منزل للراهبات وتواصل القول أن أغلبية العمال معه لم يكونوا على دراية بهوية الأب فوايوم مما أدى إلى سوء تفاهم مع بعضهم لكن المؤسف الحقيقي أنه كان في أحد الأيام قادما من مدينة تيبيت فاصطدمت دراجته الهوائية التي كان يركبها في الطريق بحجر وتعرض الأب فوايوم لسقوط عنيف مما أدى إلى شل حركته لعدة أسابيع. كان الأب فوايوم مستشرقا ورجل علم وفكر وثقافة وحكمة فكان منظرا لرجاله يعطي النصائح والتوجيهات بل كان فكره أكبر من حجم إرساليته الصغيرة يقدم المحاضرات ويشرف على التكوين وهذا ما أهله لاحقا ليلتحق بالفاتيكان موظفا مكلفا بالتعليم والإرشاد سنة 1968 ولم يكن منصرا ميدانيا يتعامل يوميا مع السكان ومع الفقراء والمرضى والجياع وينغمس في مواقف محرجة كما كان حال خلفه الأب ميلاد عيسى الذي تعرض لعدة مواقف كادت أن تعصف به وكاد أن يطرد من المدينة ولولا تدخل رئيسه السابق فوايوم وأسقف الجزائر مارسيي. كان رحيل الأب فوايوم عن الأبيض يعد مؤشرا لرحيل الأخت مادلين فهو بالنسبة لها القدوة والمثل الأعلى فمغادرته للجزائر كان إيذانا بمغادرتها هي الأخرى ولو بعد حين فهي شريكته في الحقل التنصيري وشريكته في تحمل مسئولية رئاسة إرسالية الأخوات الصغيرات وفعلا لم يطل بها المقام وبعد سنتين من رحيله قررت هي الأخرى الرحيل أيضا والتحقت بفرنسا مع نهاية سنة 1949 وكما خَلَفَ الأب ميلاد عيسى الأب فوايوم تركت الأخت مادلين مكانها للأخت جين Jeanne على رأس الأخوات. رغم مغادرة الأب فوايوم لمدينة الأبيض لم تنقطع أخباره عنها ولا أخبار المدينة عنه خاصة أن خليفته الأب ميلاد عيسى كان متهورا في بعض مواقفه مما عرضه لعدة أزمات كان يستعين برئيسه السابق للبحث لها عن حلول كما أن الأب فوايوم كان يتردد بين الفينة والأخرى على زيارة مدينة الأبيض إلى غاية نهاية القرن الماضي إلى أن أعجزه الكبر وفقدان البصر!.