تأملت قوله تعالى: "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا: ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"سورة المائدة21 23 . فلفت نظري أنهما وصفا بالخوف وهما أشجع القوم، كما لفت نظري أنهما حظيا بإنعام الله. فتأمل الآيات كيف تجمع بين الوصفين المتناقضين ظاهرا ولا يخلو من سر! قال تعالى:(مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ) فجمع وكأنما ثم غير هذين يخافون، لكن لما كان الرجلان صامتين مُِّيز الرجلان بشيئين، الأول: القول "قال رجلان" والثاني: أنعم الله عليهما، وهكذا في الفتن والمحن يشترك كثيرون في المشاعر والتصورات، لكن التعويل على القائمين بأمر الله الساعين فيه أما الصامتون فكأن لم يكونوا! ولما كان الأمر بالمعروف هو سبيل النجاة؛ وصف من كان قائما به بالنعمة؛ لأنه إنما وفق إليه بفضل الله ابتداء. وتأملت تأخر طلب التوكل رغم أن الأصل أن القائم بأمر الله لا بد أن يستصحبه إن لم يستسبق به، فوجدت أن هذين الرجلين بدآ بطلب الفعل الذي يكون به العبد مستجيبا لربه، ثم بينا شروط الفلاح والنجاح في المهمات الجسام، وهو وإن كان سابقا فإنه يتأخر عن الفعل المأمور به على الفور فهو لازم لا مطلب! ولك أن تتأمل الصورة البديعة لسهولة النصر (ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) وهذه حقيقة غابت عن أذهانهم فإنهم كانوا موعودين بالنصر؛ لأن الله كتب لهم الأرض المقدسة فلو كانوا واثقين بموعوده لرأوا النصر في كتابتها لهم، وهذا أقوى الوعود وأمكنها لكن غاب عنهم ذلك لما غاب عنهم الإيمان واليقين! ولما كان الخوف مستمكنا أعرض القوم عن نصح الناصحين، ولم يحاوروهم وتوجهوا لموسى يقولون: اذهب أنت وربك، ولم يشيروا لهذين الرجلين، إما لتجاهلهما، وإما لئلا يعابوا بأنهم جبنوا عما أطاقه أقرانهم. وفي انفراد رجلين بالنصيحة والشجاعة وتمالؤ الجماعة على الجبن والخوف دلالة على أنه لا يوثق بفقه الجماهير مهما كثروا وأن العبرة بالحق مهما قل.