أما لماذا اختصت هذه الأمة بالخيرية مع قيام الأمم السابقة بالفريضة ؟ وما الميزة النسبية في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدى هذه الأمة المحمدية التي تجعلها خير الأمم ؟ فالإجابة على هذا التساؤل من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: التضحية بالنفس في سبيل تحرير الإنسان من المعبودات البشرية والحجرية.... فإذا كان الجهاد لم يقصد منه إلزام الناس للدخول في الدين ( لا إكراه في الدين ) ، أمكن أن ندرك أن مقصوده الأعظم هو: تحريرهم من الاستعباد والظلم الذي يحرمهم من أعظم مقاصد الشريعة وهي: الحرية التي بها يخلص الدين لله تعالى، وبدونها يبقى الإنسان معلقاً في حريته، فهي ركن الخلاص من معبود غير الله تعالى. ومن هنا نصل إلى مفهوم أعمق في سبب هذه الخيرية: فالعلماء يعبرون عن مقصد الجهاد الأعظم بأنه : قتل النفس من أجل إقامة الدين. والدين لا يقوم إلا بتحرير الإنسان من المعبودات فالنتيجة : أن المجاهد في سبيل الله يموت من أجل حرية الإنسان ضرورة ومن وجه آخر : أن الدين هنا دين الاستسلام لله والخلوص له من الشرك. الشرك في عبادته، أو الشرك في سيادته وملكه وتدبيره. فشريعة الإسلام توجب قتل الأنفس من أجل العدل والحرية، فبهما يكون الاختيار ويندفع الإكراه، وتصان الكرامة التي ميز الله بها الإنسان عن بقية المخلوقات ( ولقد كرمنا بني آدم..) . وحين تقوم الأمة بالفريضة فإنها تخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فإذا زال الاستعباد وتحرروا من الطغيان عبدوا الله مخلصين له الدين، فإذا وقعوا في المعصية فوقوعهم لا يكون بالتدبير والتخطيط والإفساد، وإنما بنوازع الشهوة التي ركبها الله تعالى الإنسان، وليس بآثار الظلم والقهر التي تدفع المجتمعات للموبقات وأشد المنكرات، فقد وقع بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم كماعز والغامدية وحاطب بن أبي بلتعة وأبو محجن الثقفي... في بعض كبائر الذنوب وشهد لهم النبي صلى الله عليهم وسلم بحب الله ورسوله. إن المجتمع النبوي لم يكن بحاجة للإجهاض الفوري على كل منكر وملاحقته وتتبعه في أماكنه المستترة أو المقاربة للاستتار، لأن المجتمع لا خوف عليه إن حقق خلوصه من المعبودات البشرية والحجرية... فهو المجتمع الآمن: ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) . فهذه الأمة ليست كالأمم الأخرى لأنها أمرت بتحرير الإنسان في كل الأرض على خلاف ما كانت عليه الأمم السابقة كبني إسرائيل، فقد كانت معنية بشؤونها والدفاع عن دينها . قال ابن تيمية رحمه الله : '' فبين الله سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحسانا إليهم لأنهم كل خير ونفع للناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم وهذا كمال النفع للخلق. وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف ولا نهوا كل أحد عن كل منكر ولا جاهدوا على ذلك بل منهم من لم يجاهد والذين جاهدوا كبني إسرائيل فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم كما يقاتل الصائل الظالم لا لدعوة إلى الهدى والخير ولا لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما قال موسى لقومه يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون إلى قوله قالوا يا موسى لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون'' ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرص23 )