بقلم: سعيد الشهابي لطالما كانت المؤسسات الدولية ذات الشأن بعيدا عن متناول غالبية قاطني هذا الكوكب وبقيت حكرا على الدول الكبرى التي تملك أسباب النفوذ والقوة. ومنها مجلس الأمن الدولي الذي تملك خمس دول فقط فيه حق النقض الذي يخولها منع صدور أي قرار إذا رأت فيه ضررا على مصالحها. وحتى عندما تصدر تلك المؤسسات قرارات كثيرا ما يستخدم حق النقض لمنع صدورها. في الأسبوع الماضي بدأت محكمة العدل الدولية مداولاتها في قضية رفعتها حكومة جنوب إفريقيا ضد كيان الاحتلال الإسرائيلي تتهمه فيها بارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة. هذا الاتهام تأسس على ما فعلته القوات الإسرائيلية في غزة في الشهور الأخيرة. وهي حالة نادرة خصوصا أنها تتعلق ب إسرائيل التي تحظى بحماية الدول الغربية خصوصا الولاياتالمتحدةالأمريكية سياسيا وعسكريا. فعلى مدى ثلاثة أرباع القرن مارست قوات الاحتلال من الجرائم ما يرقى لجرائم الإبادة فاحتلال الأرض وإبعاد أهلها الأصليين بالقوة ومصادرة منازلهم وفرض سياسات ثقافية وسياسية تهدف للقضاء على هويتهم الثقافية والاعتداءات المتواصلة التي راح ضحيتها الآلاف كل ذلك كان كافيا لصياغة تهم بالسعي لإبادة الشعب الفلسطيني. وكان الغرب متواطئا في كل مراحل تلك الجرائم. واستخدمت أمريكا حق النقض لمنع صدور قرارات ذات معنى تمنع الجرائم الإسرائيلية. وحتى عندما صدرت قرارات دولية مثل 242 و 338 بعد حربي حزيران في 1967 وأكتوبر 1973 حالت السياسات الغربية دون إلزام المحتلّين بهما فاستمر الاحتلال ومعه حرمان الفلسطينيين من أرضهم واستمرار المحتلين في ارتكاب جرائهمهم. وقد التفتت الولاياتالمتحدة لخطر صدور قرارات دولية ضد إسرائيل على غرار القرارين المذكورين فانتهجت سياسة تعتمد دبلوماسية متحركة لمنع صدور قرارات كهذه وأصبحت لها قوى ضغط تعمل لحماية الكيان الإسرائيلي من الحصار السياسي الدولي. ويمكن عرض قضية فلسطين ومواقف الغربيين والمؤسسات الدولية إزاءها من خلال قراءة مواقف أمريكا وحليفاتها. إذ ليس هناك خلاف بأنها تمثل كبرى الأزمات التي مرّت بالعالم وأنها ما تزال تمثل تحدّيا له وفشلا سياسيا ودبلوماسيا لعالَم ما بعد الحربين. ونود هنا التطرق للقضية من خلال محاور ثلاثة: الدور الأمريكي والموقف الدولي والنضال الفلسطيني. هذه المحاور تمثل بمجموعها مسار القضية التي أظهرت عجز العالم عن القيام بفعل إيجابي لإحلال الأمن والسلم الدوليين برغم توفر إمكانات ذلك من الناحية العملية. وكان غياب القرار الشجاع لتطبيق القرارات الدولية من أهم عوامل استمرار هذه الأزمة وسواها. وثمة تفسيرات لذلك من أهمها عدم توفر آليات التنفيذ لدى المنظمات الدولية خصوصا الأممالمتحدة. فلا يُنفّذ منها إلا ما يتوفر الدعم العسكري الغربي له. ولذلك فبعد ثلاثة أرباع القرن ما يزال الحديث عن العمل الدولي المشترك سرابا يجذب الأنظار ويستهوي الكثيرين ولكن الواقع يهيمن عليه التحالف الغربي. ففي غضون أسابيع قليلة هرول الغربيون لاستخدام القوة بأقسى أساليبها لمواجهة ما اعتبروه تحدّيا لنفوذهم في أهم ممر مائي دولي عبر باب المندب. هنا اصطدمت الإرادة الإقليمية بالسياسة الغربية التي تتصدرها أمريكا. لقد كان تحدّيا كبيرا للأمريكيين صعود نجم حركة أنصار الله في اليمن كقوة سياسية وعسكرية ضاربة تتصدى لملفات خارج بلادها. وربما كان قربها السياسي من إيران أحد محفزات الغربيين لاستهدافها ولكن الأمر الأخطر إعلانها بوضوح دعمها لفلسطين وشعبها خصوصا في غزة. * غياب القرار الشجاع لتطبيق القرارات الدولية ففي الوقت الذي تلاشى فيه الدعم العربي الحقيقي لأكثر من مليوني إنسان كانوا يعيشون في غزة قبل إجبارهم على الخروج منها ظهرت حركة أنصار الله في اليمن لتعلن بشكل واضح ليس فيه لبس او غموض معلنة اتخاذ خطوات عملية لذلك الدعم. فقد استهدفت البواخر التي تنقل بضائع للكيان الإسرائيلي عندما تمر بمضيق باب المندب. فجاء الرد الأمريكي فوريا باستهداف معاقل الحركة. فأمريكا احتضنت الاحتلال الإسرائيلي واعتبرته قضيتها الأولى ورفضت المساومات على ذلك الموقف. فالكيان الإسرائيلي أصبح قضيتها الأولى في العالم وقد سخّرت ما لديها من إمكانات عسكرية لحماية هذا الكيان وغضّت الطرف عن جرائمه المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني. الغربيون لم يتحمسوا للقرارات الدولية الهادفة لتسوية القضية الفلسطينية لأن المحتلين لا يريدونها. ف إسرائيل كيان توسعي لا يكتفي بما يحتله من أراض فلسطينية بل يؤسس سياساته للتوسع وفقا للأحلام الصهيونية. وغياب الحماس الغربي للقرارات الدولية ساهم في تهميشها. ولكن هؤلاء الغربيين أنفسهم لم يترددوا لحظة في استخدام القوة للدفاع عن إسرائيل . فما يريدونه تتوفر القوة العسكرية لتنفيذه وما لا يناسب سياساتهم يبقى معلقا بدون حل. أليس هذا ما يحدث الآن في جنوب غربي الجزيرة العربية؟ فما معنى استهداف اليمن بالصواريخ الأمريكية خارج إطار الشرعية الدولية؟ لماذا تمارس أمريكا دور الشرطي الدولي بدون أن يكون هناك تفويض من أحد؟ وبهذه السياسة ساهم الغربيون في إضعاف العمل الدولي المشترك وتهميش ما يمثل ذلك خصوصا الأممالمتحدة ومنظماتها. فمثلا كان الموقف الأمريكي مؤذيا عندما انسحبت واشنطن من مجلس حقوق الإنسان لأنه بدأ تحقيقاته في الملف الإجرامي الطويل للكيان الإسرائيلي. الأمريكيون مستعدون دائما لحماية إسرائيل مهما ارتكبت من جرائم بحق الفلسطينيين. وحتى هذه اللحظة يقر الغربيون بأن الممارسات الإسرائيلية في العدوان على غزة تجاوزت ما يمكن اعتباره ردا على حوادث 7 اكتوبر الماضي وأصبح العدوان الإسرائيلي على غزة يتسم بالانتقام الذي يتضمن إخلاء القطاع من الفلسطينيين. وكانوا سيدعمون بشكل كامل المشروع الإسرائيلي لإعادة توطينهم في مناطق أخرى مثل سيناء او الأردن أو جنوبلبنان. وهنا يسجل لجمهورية جنوب إفريقيا الفضل في وقف هذا المشروع. فقد طرحت أمام محكمة العدل الدولية مشروع إدانة يتجاوز في محتواه كافة القرارات الدولية السابقة. وساهمت تجربة النضال الوطني الذي اكتسبته جنوب إفريقيا من خلال التصدي للنظام العنصري خبرة واسعة ساعدتها على النظر بعمق في النوايا الإسرائيلية. فجاءت القضية التي رفعتها ضد كيان الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية لتحرك الضمير الإنساني ولتخلق لدى الغرب قلقا غير مسبوق. وخشيت القوى الغربية تصنيفها في خانة الإسرائيليين وما يتهمون به من ارتكاب جرائم إبادة. وكان واضحا أن هذا البلد الإفريقي الذي اكتسب خبرات طويلة خلال عقود من النضال قد انطلق هذه المرة على أساس خبراته وتجاربه. فهو لا ينسى أن إسرائيل كانت حليفا قويا للنظام العنصري الذي هيمن على ذلك البلد عقودا قبل أن يتصدى له المناضلون بقيادة نيلسون مانديلا ويسقطوه. المحور الأول إذن يدور حول الدور الأمريكي التي توسع بعد الحرب العالمية الثانية وبرغم تراجعه النسبي بعد التجربة الأمريكية غير الناجحة في جنوب شرق آسيا ثم في فيتنام فقد عادت أمريكا إلى المسرح الدولي بعد حدوث أزمة الكويت. ويفترض ان تكون أمريكا جزءا من المعسكر الغربي الذي تعمل ضمنه لحماية مصالح الغرب ولكن أوروبا تراجعت كثيرا وتركت المجال للوصاية الأمريكية. وما أكثر السجالات حول هذه الوصاية وما إذا كانت قوة للخير أم أداة للشر ودعم الظلم واستهداف المظلومين. وبرغم السجل الأسود من التدخلات الأمريكية في مناطق شتى من العالم ما تزال واشنطن قادرة على ممارسة النفوذ مستغلة غياب الإرادة الدولية والعمل المشترك المدعوم بالمؤسسات الدولية. إن استمرار هذا الدور ليس خبرا مفرحا للشعوب الباحثة عن مصالحها وأمنها واستقرارها خصوصا في غياب التضامن بين الشعوب في عصر العولمة التكنولوجية التي تهيمن أمريكا عليها بشكل شبه حاسم. أما الموقف الدولي فالواضح أنه يتجه لدعم فلسطين ورفض العدوان الإسرائيلي. المشكلة أن الدول الغربية خصوصا أمريكا وبريطانيا تسعى لمصادرة الموقف الدولي بالضغط والإكراه والتهديد وفرض الأمر الواقع. الأمر المؤكد أن الحق لا يضيع ما دام هناك من يطالب به وأن الظلم لا يدوم ما دامت هناك مقاومة له. وبرغم انطلاق المحاكمة في لاهاي فمن غير المستبعد حدوث تواطؤ غربي لوقفها او إفشالها لأنها ليست محاكمة للكيان الإسرائيلي فحسب بل لداعميه خصوصا واشنطن ولندن.