بقلم: سامح المحاريق في مباراة إسبانيا وإيطاليا التقطت الكاميرا لأكثر من مرة جمهوري الفريقين متقاربين ومتداخلين وهذه لم تكن الحالة في مباراة جورجيا وتركيا التي شهدت اشتباكات بين المشجعين من البلدين ويمكن أن تشهد بطولة أمم أوروبا المزيد من المشاجرات مع وجود منتخبات صربيا وألبانيا وكرواتيا حيث هددت صربيا بالانسحاب من البطولة في حال لم يتحرك الاتحاد الأوروبي لكرة القدم ويوجه عقوبات لجماهير كرواتيا وألبانيا لهتافها: اقتلوا الصربيين! القارة الأوروبية ليست في أفضل حالاتها من جميع النواحي خاصة الاقتصادية والتراجع الاقتصادي يولد النزعات السلبية على المستوى الاجتماعي وأتت الترجمة الأولوية على المستوى السياسي بالفوز الكبير الذي حققه اليمين الفرنسي بزعامة مارين لوبان في الانتخابات الأوروبية وقيام الرئيس إيمانويل ماكرون بحل البرلمان الفرنسي ليتوجه إلى انتخابات مبكرة وبذلك تصبح لوبان التي بقيت لسنوات منافسا فلكلوريا لا يأخذه الكثيرون على محمل الجد الرئيس المحتمل القادم لفرنسا في الضربة الأكثر ضراوة في رحلة صعود اليمين في أوروبا. المشكلة أعمق من وجود تحيزات داخل القارة الأوروبية وبعض ملامح الغضب الاجتماعي من السياسات اليسارية المتعلقة بالهوية وأشكال الحياة في الأسرة وحتى من مشكلة المهاجرين الذين يتوقع أن يتحولوا إلى الحائط المائل أمام سياسيي اليمين في بحثهم عن مزيد من الشعبية والحقيقة أن الاقتصاد يتحول إلى كلمة السر في الأزمة الراهنة مع تراجع قدرة الدول على تطبيق سياسات نقدية ومالية مستقلة من أجل مواجهة أزمات التضخم التي تخيم على أوروبا فالواقع أن اليورو كعملة موحدة يعمل وفقا لآليات تقررها الدول الأقوى اقتصاديا والأكثر ثراءً في الاتحاد الأوروبي ووفق معايير تتعلق بشعوبها وتفضيلاتهم ما يدفع الشعوب الأخرى لمعايشة واقع اقتصادي لا يتناسب مع ظروفها ولا مع التيارات السياسية والاجتماعية السائدة فيها. يتوازى مع ذلك محدودية القرار المنفرد للدول الأعضاء في بناء علاقات خاصة مع أطراف يتخذ الاتحاد نفسه مواقف مناهضة تجاهها مثل روسيا بما يقلص من فضاء الحلول المطروحة للخروج من أزمة أخرى تتعلق بتكلفة الطاقة التي تحرك جزءا مؤثرا من ارتفاع تكلفة الحياة. * دولة الرفاه الاجتماعي صعود اليمين داخل المشهد يقوم على أرضية واسعة من الدعم الذي يقدمه الشباب في القارة الأوروبية أو جيل زد الذي يفترض أنه تلقى أوسع وأكثف خطاب يتعلق بالقيم الأوروبية الحديثة وفقا لمفهوم اليسار الأوروبي وكان يعيش تحت ضغط مجتمع ال نتفليكس وغيرها من الأدوات التي وظفت في الهندسة الاجتماعية وجاءت الضربة المدوية الأخرى في هولندا التي بقيت لعقود من الزمن نموذجا للانفتاح الأوروبي وأرضا للحريات شبه المطلقة وبعد بقائه لسنوات مصدرا للسخرية في أوساط أوروبية كثيرة يصعد المتطرف خيرت فيلدرز ليصبح قريبا بصورة لم تكن واردةً لرئاسة الحكومة قبل أن يفشل في حشد التأييد اللازم لتشكيل حكومة ائتلافية ولكن مجرد دخوله إلى اللعبة بوصفه السياسي الأكثر تأثيرا يعتبر خطوة كبيرة لليمين كما أن مكتسبات حزبه ستعمل مع الوقت على التضييق على المهاجرين واللاجئين واتخاذ قرارات اقتصادية انعزالية ربما تحمل تأثيرا عالميا بعد المخاوف من قوانين تتعلق بالصناعات التكنولوجية الهولندية التي تسيطر على الآلات المصنعة للرقائق الإلكترونية. لا يبدو الاتحاد الأوروبي قابلًا للاستمرار بالطريقة نفسها ولا مؤهلًا للقيام بالأدوار نفسها مستقبلًا وبذلك سيكون العديد من الملفات العالمية مهددة بالتراجع أو المراجعة التي تفرغها من مضمونها وتبدد مكتسبات سنوات من العمل والتوافق وفي مقدمتها التجارة الدولية والبيئة والمناخ خاصةً أن من بين الخصوم الرئيسيين لليمين الأوروبي تأتي أحزاب الخضر التي تعنتت في التعامل مع بعض الحلول لتعويض نقص الغاز الروسي وجعلت القارة الأوروبية تعيش شتاءً غير مسبوق اضطر فيه العديد من المؤسسات إلى إدارة أجهزة التكييف بطريقة جعلت المباني أكثر برودة وذكّرت الأوروبيين بجوهر مشكلة سياسية ألقت ظلالها على أوضاعهم الاقتصادية. لم تعد عقيدة الذنب تصلح لقيادة أوروبا ولا جميع التسويات التي تبنتها الدول الأوروبية بعد كارثة الحرب العالمية الثانية فالواقع أنها مختلقة ثقافيا وكثيرا ما اعتمدت في استمراريتها على دولة الرفاه الاجتماعي التي أجلت الكثير من الأسئلة ورحّلت العديد من الأزمات وهذه الدولة استفادت بحدود متباينة من بقايا عصر الاستعمار ومن استهلاك التقدم التقني الأوروبي في زمن ما قبل العولمة وجميعها عوامل تتعرض لضغوطات كبيرة. المكون الثقافي الذي بقي لسنوات يحد من قدرة اليمين وتأثيره كان يشبه شخصا يشاهد فيلما حالما في صالة العرض ويحاول التعايش معه ولكنه يكتشف عند خروجه أنه لا يمتلك ما يكفي للحصول على وجبة عشاء جيدة وأن الواقع يفرض شروطا مختلفة. يمكن ألا يكون المستقبل سوداوياً لدرجة تشبه القرن الماضي أو بالمعنى الأقرب لن يكون في الكثافة نفسها ومع ذلك سيخلق وضعا غير مريح على المستوى العالمي خاصة في الأقاليم التي تحاوط أوروبا مع اعتمادية أوروبا على استيراد المهاجرين وفقا لأولوياتها الخاصة والقارة الأوروبية تمكنت تاريخيا من تصدير مشكلاتها بكفاءة وفي أفضل تغليف ممكن من الخطابات والشعارات. التوسع في أعداد الفرق المشاركة في البطولة الأوروبية أتى بالكثير من الأعداء والخوارج عن التقاليد الأوروبية المدعاة في الجزء الغربي من القارة ليصدمها بواقع جديد سيفرض شروطه قريبا.