تضيق قلوبٌ ذرعا بالوصاية والتزمت لدى بعض المنتسبين للعلم، والمفتين، بينما يسلك آخرون طريقا بعيدا كردة فعل عن تعاليم الشريعة، فيضيع بين الطرفين جمال ديننا وأناقته· وحيث إنا قد وجهنا سهام النقد كثيراً للتيار المتزمت الذي كسا الدين ثوبا موحشاً، فإن التيار الآخر قد يكون أحوج لتوجيه النقد، وصدق من قال: ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ وحينما ننقد توجهاً ما؛ فإنما ذلك لأنه خالف تعاليم الإسلام، وبعد عن منهجه الصحيح؛ ومنبعه العذب الصافي، ونحن نعتقد أن الإسلام جميل ورائع في كل ما جاء به، ولا يمكن أن يختلف عقل سليم مع شيء من تعاليمه؛ لأن الذي ارتضى الإسلام لنا ديناً ونهجاً إصلاحياً جعله يسير مع العقل السليم جنبا إلى جنب دون أي مجافاة، وحين يوجد ميل ذات اليمين أو ذات الشمال بعيداً عن الخطوط والمعالم التي رسمها الإسلام، فإن واجبنا أن نرده إلى صراطه المستقيم· فمثلاً، حين نرفض بشدة كثيراً من الأساليب التي تعامل بها المرأة المسلمة من حبس وتضييق وكتم على أنفاسها، وهذا الرفض منطلق من قناعتنا الدينية، فما هكذا هو الدين !·· فإنا في ذات الوقت نرفض أن يجعل الحبل على الغارب، وتصير المرأة مطية لتحقيق مآرب المفسدين ومرضى النفوس· وهذا الرفض أيضا منطلق من مبادئنا وقناعتنا الدينية، والدين بين هؤلاء المتفلتين وأولئك المتزمتين· إن عملية الإصلاح ليست بسلوك اتجاه معاكس، بغرض المخالفة فحسب، وإنما هي بالتحري الجاد للتعاليم الشرعية دون أي مؤثرات ولا رواسب أو موروثات قديمة، فيجب تخلية القلب تماماً من كل قناعة مسبقة قبل أن يرد الأمر من الشارع الحكيم ليصادف قلباً خالياً يستطيع أن يتصور الحكم تصوراً صحيحاً كما أراد الله تعالى لا كما يريد هو أو المجتمع المحيط به، فالله هو الحكم الأعلى وليست أذواقنا ورغباتنا· ونحن نعاني من كثير من التيارات لأنها صارت سداً منيعاً بين الناس والدين، وخلقت أجواء وتصورات غير صحيحة، فننكرها لنحافظ على الدين لا لنهدم ما بقي منه، وهذه نقطة مهمة وحساسة جداً· وحيث كان الناس أقرب إلى العزيمة فلا يصح أن نشن عليهم هجوماً للأخذ بالرخصة، بحجة أنها أيسر للناس، وتضيق صدورنا بمن أخذ بعزمات الشريعة· ومثاله: الصلاة في الجماعة، فإنها إن كانت عند أكثر العلماء سنة وليست فرضاً، فليس من العقل ولا من مصلحة الدين أن يقف الداعية، أو طالب العلم أو العالم سداً بين الناس والمسجد، وينافح عن جواز الصلاة في البيت ويصير هذا جزءاً من رسالته· وليس من الفقه في شيء أن تقلل قيمة السنة في نفوس المسلمين، حتى لا يكادون يفعلونها، وقد قال بعض الحكماء: إن الصحب الكرام كانوا يفعلون السنة لأنها سنة، ونحن نتركها لأنها سنة· هذا من باب التنزل والحوار، وإلا فإن كون صلاة الجماعة من شعائر الدين، ومن علامات الإيمان، ومن سنن الهدى، وغير ذلك مما ورد في فضل الجماعة، فإن تهوين هذا الفضل في قلوب المسلمين من أعظم النكبات التي قد يبتلى بها معلم الناس الخير· ومثله كشف الوجه للمرأة، وإن كان أكثر العلماء لا يرون الوجه عورة، فليس من الحكمة ولا من الجائز أن نحارب تغطية الوجه كما يفعله بعض المحسوبين على الدين بحجة أن تغطيته غير واجبة، وإنما ينكر الحرام المتفق على تحريمه، ولا أحد يحرم ما ذكرنا، بل إن الحرص على التهوين من تغطية الوجه والصلاة في جماعة؛ هو عين محاربة الإسلام الذي يتشدق هؤلاء بالدعوة إليه والحرص عليه· إن من أعظم ما تصاب به الأمة أن يبدأ الناس بحجج متفاوتة من التخفيف والتيسير؛ فيقعون في إضعاف قيمة التدين في نفوسهم، ويضعفون حب الخير في قلوبهم، خاصة فيما تنافس الناس فيه من طرق الخير، صيام يوم عرفة الذي بدأت في هذه العقود القريبة جموع المسلمين في شتى بقاع الأرض تصومه وتحيي نهاره بالذكر والدعاء· فيأتي من يخالف كل ذلك ويقطع طريق الخير عليهم، والصيام لا عدل له كما ثبت عن الحبيب صلى الله عليه وسلم، فكيف إذا كان يوم عرفة، أو عاشوراء، أو أيام البيض، وكل ذلك مما لا خلاف في سنيته· والمراد أن التيسير ليس هذا مفهومه ومعناه، بل التيسير هو ما ثبتت به الشريعة مهما اختلف حكمه فيها، إذ إن النص في القرآن يقول: وما جعل عليكم في الدين من حرج· وتنبه إلى أنه قال في الدين، ولم يقل في ترك الدين، أو التساهل فيه، والله المستعان· * الشيخ عادل الكلباني