(سيدي بومدين جيتك زاير·· أجيني في المنام نبرا)، تسمعها دون شعور تتردد في أعماقك، وأنت تصعد سيرا على الأقدام، أو على سيارة أجرة، إلى هضبة العباد، حيث ضريح الولي الصالح، عساس تلمسان (سيدي بومدين الغوث)، ترى الناس من كل الأعمار، ومن الجنسين، يسيرون مسرعين، وكأن قلوبهم معلقة هناك، وسرعان ما تلمح الهدوء والراحة على وجوههم وهم يدقون على باب سيدي بومدين، يقال إن كل من يرغب بالعودة مجددا إلى تلمسان عليه أن يدق باب الضريح ثلاث مرات، ويرتفع عدد الدقات على الباب، بالنسبة لمن تقصد الضريح، وهن كثيرات جدا بحثا عن زوج صالح، قد يكون مختبئا في زاوية من زوايا هذا القدر، وقد تخرجه بركات سيدي بومدين، إلى المعنية بالأمر· من هنا، كانت زيارة ضريح الولي الصالح سيدي بومدين، للتبرك وطلب المعونة في الكثير من أمور الحياة، وهو ما نجده في كل الأضرحة ومقامات الأولياء، الغريب في الأمر، أن كثيرين، يدركون أنه لا سيدي بومدين الغوث، ولا غيره من أولياء الله الصالحين، يمكنه أن يقدم شيئا، مع ذلك، تجد الناس، يهرعون إليه، يتمسحون بضريحه، يقولون إن المهم هو (النية) وأنهم ببركة وصلاح وتقوى هذا الولي الصالح قد يستجيب الله لدعائهم وتتحقق أمانيهم· طقوس غريبة أخبار اليوم من جهتها قصدت أحد أهم المعالم التاريخية والدينية والأثرية التي تضمها مدينة تلمسان، وهو مركب سيدي بومدين الذي يضم ضريحه ومسجده والمدرسة القرآنية الخلدونية، وكذا القصر المريني، غير أن الأهم بالنسبة إلينا، عدا المعلومات التاريخية حول المكان طبعا، كان الوقوف على بعض السلوكات، أو بالأصح الطقوس التي يتبعها زوار ضريح سيدي بومدين، والتي تبدأ من خارج الضريح، باقتناء الشموع من بعض المحلات المجاورة، ثم الدق على الباب، حيث يختلف العدد باختلاف مقصد كل شخص من زيارته، إحدى المرشدات السياحيات على مستوى المركب التي رافقتنا في جولة بكل أجنحته، قالت إن هنالك طقوسا كثيرة تقوم بها بعض النسوة على الخصوص، لاسيما من الباحثات عن الزواج، وإن كانت بدأت تقل حاليا بالنظر إلى مستوى تعلم وثقافة العديد من الفتيات، مقارنة بالأمهات أو الجدات اللواتي يجرنهن جرا إلى المكان، قصد فك عقدتهن وإجبارهن على اتباع تلك الطقوس التي تعود إلى عقود طويلة مضت، ولا زالت بعض مظاهرها مستمرة إلى الآن، وإن لم تكن بنفس الحدة، والدرجة، ومنها مثلا، الدخول حافيات الأقدام إلى الضريح، والتمسح بستاره، وكذا إشعال شمعة في خارجه، فيما تقول إن المرشدين والأعوان العاملين في المركب، كثيرا ما يضبطون بعض النسوة وهن يقمهن بتصرفات يحتار لها العقل السليم، حيث تقول إنه في بعض المرات، تم ضبط عجوز وهي تنزع التراب من الضريح، وتتمسح به، وأخرى تحاول جمعه في قطعة قماش صغيرة، حتى تضعه لزوجها في الماء ليشربه، فيشفى ببركة سيدي بومدين، وأخريات يحاولن سرقة قطع من الحجارة الصغيرة لحملها معهن، فيما تقوم أخريات برش بعض الأشياء الغريبة في المكان، أو نثرها، وتضيف محدثتنا أنهن يحاولن في كل مرة نصحهن وتقديم الإرشادات لهن، بأن كل هذه الأمور لا تدخل في أي إطار شرعي، وليس لها أية فائدة، وأن عليهن بالدعاء وإخلاص النية لله فقط دون غيره، ويشهد الضريح، إقبالا قويا من طرف أهل تلمسان وزوارها في المناسبات الدينية، وخلال أيام الجمعة، حيث يتم تنظيم وعدات بالمقام، كما يكون على مدار الأسبوع قبلة للزوار والسياح من مختلف المناطق ممن يقصدون تلمسان، ولا يمكن أن يغادروها دون زيارة مقام الولي الصالح سيدي بومدين الغوث· من هو سيدي بومدين؟ الولي الصالح أبو مدين شعيب، من مواليد إشبيليا بالأندلس سنة 509 هجرية، وتعلم في فاس ببلاد المغرب، واستقر في بجاية، شرق الجزائر، مدة معتبرة من حياته، نشأ على حبّ القرآن الكريم بحيث كان وهو مشتغل يرعى غنيمات لأهله، يقترب من التالين له ومقرئيه فينصت لهم ويسمع، وازداد حبّه للقرآن العظيم فعزم على حفظه، فأدرك أنّه لا يتأتى له ذلك إلا بوجود وسط يلائم أمنيته، بحيث لم يوافقه في ذلك أخوه الكبير الذي كان يتولى شأنه بعد وفاة أبيه، فقرر يومًا أن يفر من البيت حتى يحقق أمنيته فأدركه أخوه بالحربة وأعاده إلى البيت، لكن عزم سيدي أبو مدين كان قويًّا ففر مرةً أخرى فتصدى له أخوه بالسيف، وأعاد الفرار ثالثةً، ويقال إن شقيقه الأكبر لما لحق به أشهر سيفه في وجه سيدي بومدين، فدافع الصغير عن نفسه بعصاه، وهناك انكسر سيف شقيقه عليها، فأدرك هذا الأخير شأن شقيقه، وطلب منه أن يذهب ليفعل ما يريده ويحبه وهو طلب العلم، وأن أحدا لن يضره بعد اليوم· جال شيخ المشايخ، وهو في رحلته لطلب العلم في المغرب وزار سبتة وطنجة بالشمال، واشتغل مع الصيادين ثم انتقل إلى مراكش بالجنوب وانخرط في سلك الجندية وفيها عرض أمره وغايته على من رآه نصوحًا فقال له عليك بفاس يقول متحدثًا عن نفسه: (سرت إليها ولازمت جامعها ورغبت في من علمني أحكام الوضوء والصلاة ثم سألت عن مجالس العلماء فسرت إليها مجلسًا بعد مجلس)· وفي هذه المجالس أخذ عن الشيوخ ولازمهم ومال عن آخرين وممن لازم وأخذ عنهم، الشيخ أبو يعزى بلنور، والشيخ أبو الحسن علي بن حرزهم· رحلته إلى الحج استأذن الشيخ أبو مدين-رضي الله عنه- شيخه أبا يعزى في الذهاب إلى الحج فأذن له· هكذا توجه الشيخ إلى الشرق وأنوار الولاية عليه ظاهرة فأخذ عن العلماء والتقى بالزهاد والأولياء، وكان من أشهر ما حدث له في هذه الزيارة المباركة، لقاؤه بالشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني-رضي الله عنه· فقرأ عليه في الحرم الشريف بركةً من الأحاديث وألبسه خرقة الصوفية وأودعه من أسراره وأنواره بعد زيارته المباركة للمشرق، رجع إلى إفريقيا واستوطن في شرق الجزائر في مدينة بجاية· وهنالك ظهر فضل الشيخ وكثر أتباعه وشاع اسمه وشرع في نشر طريقته بين الناس وكان يقول: (طريقتنا هذه أخذناها عن أبي يعزى بسنده عن الجنيد عن سرى السقطي عن حبيب العجمي عن الحسن البصري عن علي-رضي الله عنهم-عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبرائيل عليه السلام، عن ربّ العالمين جل جلاله)· ما أحلى العباد للرقاد ويروى عن وفاته، أنه لما ذاع صيته من بجاية إلى جميع البقاع، وشى به أحد علماء الظاهر عند يعقوب المنصور، وقال له إن له شبها بالإمام المهدي وأتباعه كثيرون في كل بلد، فبعث المنصور إلى الشيخ يستقدمه إليه، وكتب لصاحبه في بجاية أن يعتني به ويحمله خير محمل·· وعندما أبدى رفاقه تبرمهم من هذه الرحلة قال لهم: (إن منيتي قربت، وبغير هذا المكان قدرت، فبعث الله لي من يحملني إليه برفق، وأنا لا أرى السلطان وهو لا يراني)· وبدأت الرحلة من بجاية حتى وصلوا به بعين تقبالت بتلمسان حيث كانت له بها ذكريات، ظهرت قرية العباد، حيث اشتد به المرض فقال لأصحابه (ما أصلحه للرقاد) فنزلوا به هناك، وكان آخر كلامه (الله الحق) ثم غرغر إلى أن صعدت روحه إلى المولى مساء يوم 13نوفمبر1197م، تاركا لمن بعده آثارا منظومة جمعت في الديوان وكذا آثارا عبارة عن حكم ومواعظ ووصايا·· منها قوله: (الحق سبحانه وتعالى يجري على ألسنة علماء كل زمان ما يليق بأهله، وإذا ظهر الحق لم يبق معه غيره)· وفي هذا المكان حيث وافته المنية بقرية العباد التي بناها المرينيون، أمر السلطان الناصر في سنة 1200م ببناء ضريحه الذي يعد بحسب الخبراء من أجمل الأضرحة عبر الوطن، ويوجد باب الضريح مقابل باب المسجد، يؤدي إلى مدرج ينزل بواسطته إلى قبر الشيخ أبي مدين المدعو محليا (سيدي بومدين)· وهذا الباب صغير ذو قوس يحيط به إطار من الفسيفساء، وفي داخل الضريح غرفة مربعة يعلوها سقف ملوّن جميل، هرمي الشكل في الخارج، ويدخل الضوء إلى هذه الغرفة من أربعة نوافذ صغيرة تضيء قبري الشيخين أبي مدين شعيب على اليمين والفقيه ابن عبد السلام التونسي المتوفى بالعباد على اليسار·