يكثر الاستشهاد في باب الأمر بالمعروف لدى أئمتنا بقصة الرجل الذي بال في المسجد، وقد خطر ببالي سؤال يتعلق بما يسميه الأصوليون ب(تحقيق المناط)، وهو: ماذا كانت الشريعة في تلك الحالة؟ هل كانت الإنكار الفوري والمنع الإجرائي، الذي فعله الصحابة بزجر الرجل ومطالبته بالكف وهو كان يفعل منكراً ظاهراً تدل الشريعة والفطرة على قبحه؟ وقد قال الرسول عليه السلام: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ) رواه مسلم· والأمر هنا ممكنٌ باليد وباللسان، والذين أنكروا استخدموا اللسان ثم همّوا باستخدام اليد فنهاهم النبي عليه السلام عن الأمرين، وترك الأمر بعض الوقت حتى أتم الرجل ما بدأه، ثم عالج الأمر بحكمته، وعلّم الرجل ماذا أخطأ، وأمر بتنظيف المكان· الشريعة الأصلية هي نظافة المساجد، وصيانتها عن الأذى والنجاسة، والشريعة الأصلية في شأن الرجل الإنكار عليه، ومنعه بما هو مقدور عليه· والذي حدث شيءٌ غير هذا بادي الرأي· والغريب أن النبي عليه السلام أنكر على المنكرين، ونهاهم عن المضي في إنكارهم، وطلب إليهم الكفّ والترك، وألا يعجلوا الرجل ولا يزرموه ولا يقطعوا عليه بوله (لاتعجلوه، لا تُزْرِمُوهُ،لا تقطعوا عليه بوله)، ولم يعمل في حقهم ما أعمله في حق الأعرابي من التريث والمراعاة، ولعل ذلك لأن فعل الرجل كان عفوياً بدافع ذاتي فطري، بينما فعل المنكرين كان فعلاً يتكئ على الشريعة، ويظن أنه يطبق نصوصاً صريحة صحيحة، وهو فعلاً أمام نصوص صريحة وصحيحة، ولكن الشأن في تطبيقها، وهنا تبرز معضلة (تطبيق الشريعة)، هل هي وضع الأحكام موضع التنفيذ والإمضاء العملي فحسب كما حدث من المنكرين في تلك القصة؟ أم يعنى جانباً خاصاً كإقامة الحدود، والذي هو زاجرٌ عن الفعل وحافز على الترك بحيث لو لم يقع الجرم أصلاً لم يقم حد، وله إجراءاته العملية والظرفية المعروفة· وإقامة الحد مما ليس يُجتهد في تحصيله، بل جاءت السنة النبوية بدرئه بالشبهات، وعدم تطلّبه، والحث على الستر ونحو ذلك، لأن الحاكم أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة، وربما كان الزجر بتشريع الحكم أقوى من الزجر بتطبيقه، والشبهة ربما التبست فرداً، وربما اتسعت لتشمل خلقاً كثيرين، كما في الخلاف الفقهي في شرب بعض الأنبذة التي يلحقها بعضهم بالخمر ويراها آخرون في دائرة المباح، ومثله بعض الأنكحة المختلف فيها· أم إن تطبيق الشريعة وإنفاذها يعني -ولابد- فهم الأمر القائم لفرد أو جماعة، والاجتهاد في اختيار ما يناسبه، وإعطاء الزمن حقه ولو تأخر الأمر عن الفور والآن، وهو نوعٌ خاص من الاجتهاد لا يتيسر إلا للخاصة من العلماء الربانيين، المتوفرين على معرفة نصوص الشريعة وقواعدها، والعارفين بالواقع البشري الثقافي، والسياسي، والاجتماعي· تطبيق الشريعة ليس يعني أن الناس سيصبحون ملائكة، ولا أن الخطأ البشري سيختفي أكان خطأ متعمداً أم كان جهلاً، أو كان معاندة للشرع ونبذاً لحكمه· ثمَّ خطأ بسيط فردي كما هنا، وثمَّ خطأ مركّب ومتراكم تحوّل إلى عادة تاريخية اجتماعية أو سياسية، ولا يخلو من تعقيد والتباس· وأخطاء غدت جزءاً من هوية شعب أو قبيلة حتى يدافعوا عنها ويقاتلوا دونها· وأخطاء هي عرف عالمي، تكرّسه علاقات، ووسائل إعلام، وتقاليد، ومؤثرات· وثمَّ ما لا يُعدّ خطأ، ولكنه عرف سارٍ جارٍ متداخل، يمكن تحليله إلى صوابات كثيرة ومشتبهات، وربما تستقر أوضاع بشرية استقراراً تصعب مقاومتُه، ويعدّ الجهل به تعامياً عن حقائق مادية ماثلة للعيان، ولو كانت غريبة· حتى الخطأ هو جزء من الوجود الإنساني لا يمكن خلو الحياة منه، ولهذا شُرّعت التوبة، وشُرع الاستغفار، وشُرعت الكفّارات، وكان من أسماء الله (الغفور)، حتى قال النبي عليه السلام: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ)· قطعاً لم يكن الموقف النبوي موقف التسويغ أو الرضا، فالمنكر يظل منكراً ولو فعله الناس، والإنكار بالقلب هو أدنى درجات الإيمان، كما في حديث أبي سعيد: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ)· لكن ثمَّ مسافة بين النص وبين تطبيق النص، فالشريعة إذاً شيء، وتطبيق الشريعة شيء آخر، وهذه فكرة جوهرية تحتاج إلى تأمل ومناقشة· هنا يدخل الجانب البشري في محاولة التطبيق، وهو اجتهاد يحتمل الصواب والخطأ، ولذا كانت اجتهادات الأئمة غير معصومة، وهي بين الأجر والأجرين إذا صحّت النية، كما في حديث عبد الله بن عمرو· ولا أفضل من الصحابة الذين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ)· كما في حديث سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ وهو في صحيح مسلم· نقل الحكم الشرعي من إطاره النظري المجرد إلى صورة عملية، ومحاولة تنزيلها على فعل المكلف، هي اجتهاد بشري يتراوح بين النصوص وبين أحوال الناس، ويقوم بهذا الاجتهاد بشر تعتريهم صفات البشرية، حتى مع تمام الإخلاص والتجرّد· ومنطقة هذا الاجتهاد هي ملتقى الزمان، والمكان، والإنسان، والحدث، والنص، كما في بحث العلامة ابن بيّه (فقه الواقع والتوقع)· فَهْم واقع الأفراد والشعوب النفسي والفكري، وقدر ما يتحملون من الشرع، وما يصلحهم ويصلح لهم، هو فقه دقيق تختلف فيه الأنظار، ويتفاوت في دركه النظّار· والتطبيق العملي مركّب من معرفة النصوص الأصلية أولاً، ومن معرفة الظرف التاريخي الذي يراد التماس حكمه ثانياً، بما في ذلك معرفة الاستعداد للقبول وردّات الفعل، وهل تعود على المجموع بالضرر، أو تربك مسيرة الحياة، أو تربك مسيرة الإصلاح المتدرّج؟ تربك مسيرة الحياة بإثارة المشكلات، والتنازع الشديد المؤدي إلى انفصام عروة الجماعة، أو تراجع التنمية والاقتصاد، أو تسلّط الأعداء·· أو تربك مسيرة الشريعة ذاتها، بالانقلاب عليها، وسوء الظن بدُعاتها، واعتقاد أنها جزء من الماضي ينبغي هجره، وعدم محاولته، لأن القدر الذي شوهد منها لم يراع فيه ظروف الحال، ولم يعط حقه من الفقه كما ينبغي· حين أفتى بعض الصحابة الرجل بالاغتسال من الجنابة وهو جريح فمات قال عليه السلام: (قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلاَّ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِىِّ السُّؤَالُ··)، وهذا يؤكد أهمية الفقه في المسألة، والسؤال عنها، وألا يفتي فيها إلا من اكتمل فقهه، وتمّ له آلة الفهم والاستنباط· فقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على من ظن أنه أخذ بالظاهر، ولم يراع واقع الحال لفرد، ومراعاة واقع الحال لجماعة أولى· ومنه يُعلم أن الاستطاعة الواردة في الكتاب والسنة لا تعني قدرة الإنسان على فعل الشيء من حيث الإمكان المادي فحسب، بل تعني ما هو أبعد من ذلك، وهو تحقيق المصلحة ودرء المفسدة· وقد كان النبي -عليه السلام- قادراً على منع الأعرابي من فعله، وكان قادراً على هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم، وكان قادراً على قتل المنافقين، ولكنه ترك ذلك كله لأن فعله يجرّ مفسدة أعظم، أو يُفوّت مصلحة أعظم، (لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)، فهذه مفسدة إعلامية قصد تفويتها على المغرضين المتربصين، وخشية أن تنكر قلوب الناس تغيير الكعبة، أو يظنوا أنه قصد بذلك الجاه والمنزلة، وربما تزعزع يقينهم بحرمة البيت وهيبته! الأمر الذي كان واضحاً منذ البداية وفي كافة الأحوال هو ما يتعلق بالكليات الأساسية والأصول الجامعة، من أمر التوحيد، ونبذ الشرك والأنداد· والأمر الثاني يتعلق بالكليات التي عليها مدار حياة الناس وسلامتهم، بحفظ ضروراتهم، ومصالحهم، ومتطلبات عيشهم، كالعدالة، وحفظ كرامة الناس، وحرياتهم، وسائر حقوقهم· وقد يسمي الأصوليون هذا بالضرورات الخمس)، التي هي حفظ الدين، والنفس (الحياة)، والمال، والعقل، والنسل أو العرض· ويُضاف إليها حفظ الاجتماع ومتطلباته من الحرية والكرامة الإنسانية والنسيج الاجتماعي المكون لشعب أو أمة· والشريعة لم تأت بحفظ ذلك فحسب، بل بتنميته، وزيادته، وتعزيزه· ولو تأملت جملة الأحكام الشرعية لوجدتها تدور حول هذه المعاني الجوهرية· والسياسة الشرعية تقتضي تقديم هذه الأصول العظيمة على غيرها، ولو ترتب على ذلك تفويت بعض الجزئيات والتفصيلات· وسأحاول لاحقاً تدوين بعض الشواهد الدالة على السياسة النبوية في رعاية الأصول الربانية، أو رعاية الأصول الإنسانية، التي عليها مدار صلاح الدين، أو مدار صلاح الحياة الدنيا، واستقامة أحوالها· إنه لسوء الحظ تبدو كثرة كاثرة من المهتمين مشغوفة بالفروع والجزئيات أكثر من شغفها بالأصول والكليات، ونتيجة لهذا الخلل في النظام الفكري والمدرسي يقع الجور على الأصول الكلية وإهمالها وإغفالها، أو اعتبار الحديث عنها تحصيل حاصل، أو عدّه هروباً من الميدان، فالميدان جدل محتدم لا يتوقف حول فروع الغالب أنها غير قطعية في الشريعة، أو حول صغائر في الحياة ليست ذات تأثير، بينما الأصول العظام تعاني من نقص الوعي وضعف الاهتمام! * إقامة الحد مما ليس يُجتهد في تحصيله، بل جاءت السنة النبوية بدرئه بالشبهات، وعدم تطلّبه، والحث على الستر ونحو ذلك، لأن الحاكم أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة، وربما كان الزجر بتشريع الحكم أقوى من الزجر بتطبيقه· * كان النبي قادراً على قتل المنافقين، ولكنه ترك ذلك كله لأن فعله يجرّ مفسدة أعظم، أو يُفوّت مصلحة أعظم، (لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)، فهذه مفسدة إعلامية قصد تفويتها على المغرضين المتربصين·