من زاوية عميقة جدا، عرفت أن أكثر الناس لا يشكلون لي سوى ملاحظة حزينة أسجلها خلف ملصق يحمل عبارة (هذا الطفل مفقود) وقد صدمت هذه الفكرة بقسوتها الكبيرة جزءا ما مني كان يناضل من أجل أن يعيش، وجزءا آخر كان يعتقد أنه كانت لديه على الأقل الأسباب الصحيحة وأنه يفعل الصواب، ولكن ربما لم تكن لديه هذه الأسباب لحماية نفسه، بل كان يحمي نموذجا تائها قد وجد نفسه في عصر لا يناسبه· في ذلك الحين، حين لم يأت أوانه بعد، سنغادر تاركين كل شيء خلفنا كما يكون، بغض البصر عن الإجابات التي نبحث لها عن أسئلة لم نطرحها بعد، عن التغيير الذي سيحدث بعدنا لأشيائنا، ولا يمكننا التخمين فالتخمين ليس ضروريا في حين نحصل على إجابات، وليس نافعا حين نعرف جيدا أنه من المحال الحصول على إجابات· أتساءل كثيرا وهي أسئلة لا يمكنني تخمين أجوبتها، كيف كان الأمر، أقصد حين كنا في بطون أمهاتنا، فمن المؤسف أننا لا نستطيع تذكر هذا، أخمن أن الأمر يشبه الوجود داخل بالون، وتخميني على أساس أنه يقال إن الضوء بإمكانه اختراق الجلد وأنه كان بإمكاننا رؤية النور، نور لا أظنه يشبه النور الذي نراه الآن، أظنها خيوط نور مزدوجة من الأمان والراحة، حتى ينفجر البالون فيبدأ شيء ما منا ينفصل وليس باستطاعتنا إيقافه فنصرخ، نرى ذلك النور الحقيقي المزدوج من الخوف والإثارة· ما حاجة طفل تنتظره حياة بائسة لمهد، ودمى محشوة، وجدران مطلية بألوان زاهية؟! كلها تعد كذبة يكذبها والداه بأن الحياة جميلة، فأن تنشأ على كذبة لهو تعبير مفرط في سلوك التربية، سيكبر ويتفحص الحياة لاحقا ليستشعر بأنها كذبة وأنها على وشك ارتكاب خطأ واحد فقط لتكشف عن أمرها، وما أكثر أخطاء الحياة· شعور طبيعي أن لا تفقد الحس من خطورة موقف كنت تنتظره وحين يحين وقته تجده كالمفاجأة رغم مخططاتك لاستقباله، فتبدأ تدرك تلك اللحظة لكل حركة حتى أنفاسك وهي تشق طريقها للخارج، الطريقة التي تضع فيها أقدامك على الأرض، وحتى هيئة الأرض، تحفظ جميع التفاصيل والفروق الدقيقة، حتى تتأكد حين ينتهي كل هذا أن هذه التفاصيل كانت صحيحة وليست من نسج خيالك، لأن المفاجآت التي ننتظرها حين تأتي تكون بمثابة الهدية، ولا شيء يرسخ في ذاكرتنا بقوة سوى لحظات تلقي الهدايا ومن ثم الاحتفاظ بها· من باب المجاملة أنت تكذب حين تتظاهر لأحدهم أنك تمد له ذراعك ليتكئ عليها إن احتاجها، وأنك شخص حاضر لمواساته في وقت الضيق، ثم تندم حين تراه يقف مثل فزاعة ببذلة سوداء في لحظة ضيق يحتاجك فيها أكثر من أي وقت مضى، كم سيكون أمرا قاسيا أن تضطر في يوم ما أن تتحمل لوحدك وبين أغراب كل آلامك، وتستجدي تلك المجاملات والوعود، فقط لا تثق بمجاملات الآخرين خصوصا أولئك الحاضرين دون مناسبة، ولأن حضورهم لم يكلفهم أي عناء، ثق فقط بيد سافرت مسافات شاسعة لتربت على كتفك، يد ستضطر لتدفع من سعادتها مقابل ليلة تشاطرك فيها حرارة ألمك، ثق فقط بأولئك الذين يبقون حاضرين إلى النهاية في حين يتضاءل جمهور المجاملين· دائما أبحث في ذاكرتي عن قصص سعيدة يمكنها أن تصرف مشاعري دون إسراف أو بخل، ولم أحصل على واحدة فاكتفيت بادخار مشاعري للحظة أجمع فيها قوة كافية لإخراجها، فلا تخفي مشاعرك مثلي فبعض المشاعر تنتظر مئات الأعوام ليأتي الشخص المناسب لتمثيلها، وبعض مشاعرنا - خصوصا حين نولد وسط أسرة تعيش حياتها ببساطة كل يوم بيومه - محرمة، حيث ينظرون إلى بعض المشاعر أنها رفاهية لا عوز لها، أو وسيلة لغاية محددة، كنت فيما مضى أعد الفاصل الزمني بين كل ابتسامة وأخرى، وفي كل مرة كان الوقت يزداد فبدأت أشعر بفجوة زمنية وبخوف يجتاحني أكثر أن يأتي يوما وأنسى كيف أبتسم، فلا تبتسم كثيرا وفي كل مكان، فلا تعرف أنه ستأتي لحظة تتغير فيها ابتسامتك وتصبح أكثر جدية، فكل ابتسامة لها شكل معين ووقت معين، ومعنى معين، وشكل واحد في العالم لا يوجد غيره هي مسؤوليتنا أن نجعل منها مثاليه وصادقة· ما حاجتنا للحب والمؤلفات تبرهن أن من نحبهم يرحلون عادة، يجب أن نكون أكثر واقعية في حبنا، علينا حين نحب أحدهم أن نزرعه زهرة ربيعية في قلوبنا، وننتظر رؤيته مع حلول الربيع مزهرا، وباقي الفصول نتعلم كيف تشتاق له، أظنها طريقة غير أنانية للاحتفاظ بهم· حين أخرج من مكان ما أترك أثرا يجعل من السهل العثور عليّ، وأنت تأكد حين تخرج من مجلس ما أن يزول تأثير وجودك أو حديثك السيئ على الآخرين، كما تتأكد أن العواصف الرملية تملأ آثار أقدامك في الصحراء وتخفيها حين تكون فارا من شخص يقتفي أثرك، ففي الصحراء كانت الريح تساعدك ولكن يندر أن يتواجد في كل مجلس شخص آخر يزيل آثارك·· في رغبة مني أن يرسمني أحدهم، رسمه يحتفظ بها شخص يحبني، وحين بحثت عن أحد لم أجد سوى المرآة التي بإمكانها رسمي بتجرد، فلا تطلب من شخص يحبك أن يرسمك فيغالي في تحسينك، ولا من شخص يكرهك فيغالي في إلصاق صفة القبح فيك، فأفضل من يمكنه أن يكون صادقا في رسمك هو البقال ولكن حذار أن تكون مديون له لأنه سيرسمك عار· عن الحرية، كنت أملك حمامة حينما كنت طفلاً، أحبسها في قفص حديدي، وفي كل مرة أطعمها بحذر ل ألا تهرب، فكانت ذكية بأن أشعرتني بأنها لا تلقي بالا للعزلة التي كانت فيها، وغافلتني حين طمأنينة وهربت، ثم عادت، فأيقنت أن من يهرب من السجن بعبقريته، سيعود له حتما بغبائه، أتريد أن تشعر بكامل حريتك، أن تمشي وتشعر لأول مرة أنك تمشي، وأنه لا جدوى من القلق من المشاعر البائسة التي تسلبك بعض منها، كن ذكيا ولا تمارس حريتك أمام مجموعة من شهود العيان حتى لا تفقدها أمام القاضي، غريب كم يزيد تحديد المواعيد من صعوبة الأمور، من فكرة انتظار رحيلهم، فهو قادر على تأكيد فكرة أنهم راحلون وإن كانوا يعتزمون البقاء يوما أو يومين، ورغم معرفتنا بأن الأمر مشرف على الانتهاء، نحاول لدقيقة أن نفصل أنفسنا عن ذواتنا ونركن الأخلاق جانبا فلا علاقة للأخلاق في بعض الأمور، طالما أن الذين تحدثهم غير متيقظين، راحلين وربما بلا عودة· نعرف جيدا أن شعورنا بالحاجة إليهم أصبح أكثر من السابق، ونعرف أيضا أنهم ليسوا من صنع خيالنا، لماذا؟ لأنهم يعيشون حياة طبيعية مثلنا ومع هذا ليس هناك حياة طبيعية بل حياة فقط لأنه في المقابل لا يوجد حياة غير طبيعية· زاوية ضيقة بعض الأحاسيس لا تكتمل إلا بوجود باعث لها فأغبى ردة فعل شعورية منك حين تنزعج من سماع أحدهم يمزق ورقة· دائما هناك عنوان خطأ، ولكن يندر وجود إشارة خطر تشير إلى لفت انتباهك أن العنوان خاطئ· أقرب الأشخاص إلى قلوبنا هم أولئك الذين نكتب أسماءهم على الزجاج من خلال الضباب المتشكل من أنفاسنا· بعض صداقاتنا تأتي متأخرة، لا تستمر رغم روعتها، مثل حصولنا على العدد الأخير من سلسلة كنا نتابعها بشغف· * عن مجموعة (في خمس دقائق) الإلكترونية