الواقع أنه من الصعب جداً اعتبار أن المعركة حُسمت بالفعل، وأن العسكر سيتخلون ببساطة عما بقي لديهم من صلاحيات وسلطات لا تفقدهم فقط القدرة على (الحفاظ على المؤسسة) و(صيانة المصالح الوطنية) كما يعلنون، ولكن تفقدهم أيضاً الحفاظ على أمنهم الشخصي وسيرتهم ومستقبلهم السياسي. لم تكن العلاقة بين الإخوان المسلمين والمجلس العسكري في مصر سمناً على عسل طوال الفترة التي تلت إطاحة مبارك بالطبع، لكنها كانت في معظم الأوقات إيجابية وعملية، وقبل كل شيء، فقد كانت مثمرة للطرفين في فترات كثيرة؛ إذ أمّنت للعسكر هدوءاً واستقراراً مطلوبين في أحيان عديدة، ومكّنت _الإخوان_ من كل المؤسسات الدستورية المنتخبة التي أنتجتها ثورة يناير عبر الانتخابات. إنها علاقة مثمرة بالفعل، نتجت عن شراكة براغماتية، جاءت أحياناً على حساب بعض القوى الثورية من التيارات المدنية والليبرالية، وجاءت أحياناً أخرى على حساب أهداف الثورة نفسها، لكن تلك العلاقة تدخل نفقاً معتماً الآن؛ فقد انتهى شهر العسل على الأرجح، وتكسرت إرادة التعاون على صخرة التساؤل الجوهري: (لمن السلطة الفعلية في مصر بعد 16 شهراً من إطاحة مبارك؟). يبدو أن العسكر لا يريدون التفريط في السلطة الفعلية بسهولة؛ لذلك فقد سارعوا بإصدار إعلان دستوري مكمل، يجعل صلاحيات الرئيس منقوصة بالفعل، ويمنح المجلس العسكري فرصة الاستدامة، وصلاحية التشريع الموقت، وحق استخدام الفيتو ضد الدستور المنتظر إعداده، فضلاً عن تقييده سلطة الرئيس في إعلان الحرب، ودعوة القوات المسلحة لمواجهة اضطرابات داخلية، والتدخل في تفصيلات عمل الجيش، وتعيين قياداته. يرتبط هذا الأمر بحكم المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب المنتخب ذي الأكثرية الإخوانية، وهو الحل الذي يظل محل جدل كبير، خصوصاً أنه استلزم ضرورة أداء الرئيس المنتخب اليمين الدستورية أمام تلك المحكمة، ما يعد إقراراً ضمنياً من جانب مرسي والإخوان بخطوة حل المجلس، وبالتالي إقرار ضمني بسلطة العسكر، ودورهم التشريعي الموقت. قبل أربعة أيام ظهر جنرالان بارزان من أعضاء المجلس العسكري على إحدى الشاشات المصرية، حيث أعلن أحدهما بوضوح أن المشير محمد حسين طنطاوي هو وزير الدفاع في الحكومة المقبلة المنتظر تشكيلها بواسطة الرئيس المنتخب. ليس هذا فقط، لكن رئيس الوزراء المستقيل كمال الجنزوري كان قد ألمح إلى أن المجلس العسكري سيحتفظ بحق تعيين عدد من الوزراء في الوزارات السيادية. بمجرد إعلان فوز مرسي بانتخابات الرئاسة يوم الأحد الماضي، خطب القيادي البارز في الإخوان الدكتور محمد البلتاجي في ميدان التحرير بين أنصار الجماعة؛ فأكد بصوت جهوري مشدداً على كل حرف أن مرسي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة. من المعروف أن الرئيس المصري هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، لكن البلتاجي رأى أنه من المهم أن يذكر هذه الحقيقة في هذا التوقيت بالذات. وبمجرد أن فرغ مرسي من الخطبة التي ألقاها في ميدان التحرير أمس الأول الجمعة، هتف حامل المايكرفون قائلاً: (يا طنطاوي قل الحق... مرسي رئيسك أم لا؟). يحتاج الأمر إذن إلى التساؤل عما إذا كان مرسي يرأس طنطاوي من عدمه (...). لم يتحدث مرسي صراحة في تلك الخطبة التاريخية عن نزاع مع المجلس العسكري على السلطة، لكن أي تحليل دقيق لما جاء في خطابه يمكن أن يستشف ذلك بسهولة، فقد أكد الرئيس المنتخب أنه يرفض، بل لا يملك، التخلي عن أي من صلاحياته، كما حرص على أن يقسم اليمين رمزياً أمام الجماهير المحتشدة في ميدان التحرير، واصفاً إياها ب(صاحبة السلطة الحقيقية)، ومؤكداً أن إرادتها أعلى من إرادة أي مؤسسة أو هيئة أو جهة، وخاتماً بأن المحتمي بالجماهير لا يخسر أبداً. لقد ظهر من خطاب مرسي أنه سيقسم اليمين في المحكمة الدستورية العليا كما نص الإعلان الدستوي المكمل، لكنه استبق ذلك بالقسم في ميدان التحرير، كما حيا القضاء المصري وأكد قبوله بأحكامه، لكنه أيضاً دافع عن اختيارات الجمهور لنوابه من أعضاء مجلس الشعب، وكأنما يريد القول إنه سيتماشى مع القواعد الدستورية والقانونية والإجرائية، وفي الوقت نفسه سيصر سياسياً على مواقفه ومواقف حزبه وجماعته. يتضح ذلك جلياً حينما ختم مرسي خطابه بالقول: (سنلتقي في التحرير كلما احتاج أحدنا إلى الآخر)، أي أنه سُيبقي سيف الاحتجاج الميداني مصلتاً في مواجهة سلطة العسكر، وهو أمر لا شك يزعج المجلس العسكري كثيراً بالنظر إلى الدرجة العالية من الفاعلية التي اتسم بها أداء الميدان كلما كانت أغلبية المتظاهرين فيه من التيارات الإسلامية في الفترة التي تلت إطاحة مبارك. يسود اعتقاد واسع في مصر بأن المعركة الكبرى انتهت لمصلحة الإسلاميين، إلى درجة أن بعض مؤيدي المجلس العسكري نفسه باتوا ينتقدونه علناً وبعنف في أعقاب فوز مرسي بالرئاسة بدعوى أنه سلم البلد ل(الإخوان)، كما بدأ كثيرون من نقاد الإخوان وأعدائهم التاريخيين بالتقرب إليهم بشكل أو بآخر، بينما عبر بعض خصومهم عن إحباطهم الشديد ورغبتهم في الهجرة، في وقت انتعشت آمال الإسلاميين بوضوح، وبدأت أحاديثهم وممارساتهم تتخذ سمتاً يعكس الشعور بالزهو والتمكن. وخارج مصر يبدو الأمر ذاته واضحاً، خصوصاً من جانب الدول الغربية الكبرى، التي يظهر يوماً بعد يوم أنها متشوقة لرؤية مصر من دون سلطة العسكر أو أي من صلاحياتهم، وفي ظل سلطة الإخوان المنتخبة، التي بدا أن هناك نوعاً من الاطمئنان لها، وخصوصاً في ملفي التعاون الاستراتيجي مع الغرب وإسرائيل. والواقع أنه من الصعب جداً اعتبار أن المعركة حُسمت بالفعل، وأن العسكر سيتخلون ببساطة عما بقي لديهم من صلاحيات وسلطات لا تفقدهم فقط القدرة على الحفاظ على المؤسسة وصيانة المصالح الوطنية كما يعلنون، ولكن تفقدهم أيضاً الحفاظ على أمنهم الشخصي وسيرتهم ومستقبلهم السياسي. لقد انتهى شهر العسل بين العسكر والإخوان، والأمل أن يجد الطرفان طريقاً إلى حل وسط متوازن، بدلاً من أن يأخذهم الصراع إلى شتاء طويل ثقيل على مصر والمنطقة. * كاتب مصري