بقلم: خالص جلبي مع شهر أوت من كل عام علينا تذكر الحرب الذرية مع نهاية الحرب الكونية، وأن القوة وصلت إلى غايتها، ولكنها من حيث لم يخطط السياسيون؛ فقد قادت العالم إلى مخاض عجيب. في ربيع عام 1945 سقطت النازية، وانتهت الحرب في الساحة الأوربية. كان بحث الحلفاء المحموم يدور حول غنائم من الحرب مختلفة: أدمغة العلماء؟! في فيلا منعزلة خارج لندن، اجتمع نفر محدود، لا يتجاوز العشرين، من العلماء الألمان، على غير موعد، أسرى حرب مدللين، قد هيئت لهم كل وسائل الراحة، بما يليق بمقام العلماء، بما فيها أجهزة تنصت، في غاية الحذق والضآلة والاختفاء، تحت كل منضدة وسرير، في كل زاوية، ومع استنشاق عبير كل وردة. شبكة التنصت كانت موصولة بدماغ مركزي، يجمع المعلومات على مدار الأربع وعشرين ساعة، قد أصغت إليها آذان تتشنف أعذب الأسرار، تتقن الألمانية، ترصد الكلمات وظلالها، وما باحت العبارات وأضمرت، تسجل كل همس، وما يلفظ كل عالم من قول إلا لديه رقيب عتيد. تمت عملية الإصغاء المتتابعة لفترة ستة أشهر، في تفكيك لأسرار الكلمات والأحاديث الجانبية، في بحث مسعور، حول معرفة تطور أمرين: السلاح النووي، ونظام الصواريخ. كان الألمان أول من طوَّر نظام الصواريخ V1 و V2 الذي قُصفت به لندن للمرة الأولى. كان من غنائم الحرب الرأس الفيزيائي الأول (اوتو هان) الذي انشطرت على طاولته المتواضعة الذرة؛ فحدثت بأخبارها، لأول مرة منذ أن تحدث عنها (ديموقريطس) اليوناني، وأسس علماء المسلمين فلسفة كاملة حولها، عن منظومة الجزء الذي لا يتجزأ، هل يتجزأ؟ كان الفيزيائي (فيرنر هايزنبرغ) الذي طوَّر نظرية الارتياب أو (اللايقين UNCERTAINITY PRINCIPLE) في ميكانيكا الكم، يهز رأسه متألماً، من أخبار هيروشيما، التي دوَّت زمن الاعتقال، فلولا التطويرات الأولى لمفاهيم الفيزياء الذرية، ما تمكن (روبرت اوبنهايمر) من الوصول إلى السلاح الذري. كان أوبنهايمر في قبضة العسكري الأمريكي (ليزلي جروفز) في قاعدة الأبحاث النووية في (لوس آلاموس)، يتدفق عليه نهر من ذهب بلغ ملياري دولار، ومقدار من الطاقة يكفي لإضاءة مدينة كبيرة لسنوات. استطاع أوبنهايمر وانطلاقا من القاعدة العلمية عن الذرة من تفجير أول قنبلة (بلوتونيوم) تجريبية في (آلامو جوردو) في الساعة الخامسة والنصف من صباح 16 جويلية 1945م. من يمتلك صاروخا عابرا للقارات، يركب على رقبته رأسا نوويا حراريا، يصل إلى أي نقطة في الكرة الأرضية، في مدى عشرين دقيقة، يصيب هدفه بخطأ يقترب من مائة متر، محسوبة برقائق الكمبيوتر، يمتلك السلطان العالمي؛ فلم تعد الدول العظمى بالامتداد الجغرافي، بل بسلطان العلم. من يملك المعرفة يملك القوة، وارتفعت اليابان بالعلم بدون سلاح، مع قدرتها على تصنيع أي سلاح. كانت المفاجأة من جهنم (هيروشيما) مضاعفة للعلماء والعسكريين معاً؛ فمن نار مشعلها ولد السلام العالمي، على غير موعد. يروي لنا العلم هذا التناقض المحير دوماً، على صورة قانون دوري يتكرر، في شهادة صاعقة، أن كل اندفاع لتطوير سلاح عسكري، يتحول في النهاية لخدمة الإنسانية والسلام العالمي. الأنترنيت ونظام الدفاع الكوني (SDI) والقنبلة النووية، كانت ثلاثة أنظمة لخدمة آلة العنف العسكري. (الأنترنيت) في البنتاغون كشبكة اتصالات معلوماتية، و(نظام الصواريخ) خارج فضائية لاصطياد الصواريخ النووية المضادة، وشبكة (الساتلايت) للتجسس، من نموذج ثقب المفتاح أحد عشر (KEY - WHOLE 11) الذي يحوم حول الكرة الأرضية، في كل مدار بتسعين دقيقة، يمسح فيها الأرض، يسترق السمع بأفضل من الجان، و(السلاح النووي) كقوة إستراتيجية لامتلاك العالم، في نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. الذي حصل أن الأنظمة الثلاثة صبت في خدمة الإنسانية، تؤكد أن الزبد يذهب جفاءً، وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال. الأنترنيت أصبح أوقيانوس طامي من المعلومات، لا تكف أمواجه عن التلاطم، تبتلع العالم في ثقافة جديدة للإنسان، وأن نماذج من أمثال ابن نوح العاق؛ لن ينفعه أي جبل يأوي إليه، في ثقافة كونية، يولد فيها إنسان عالمي الثقافة، يتنافس فيها مع الآخرين، بالفكر وليس القوة. لقد تحول رصيد (فكر القوة) إلى (قوة الفكرة) فهل يعقل هذه الحقيقة رجل رشيد؟ نظام الصواريخ الكوني وأقمار التجسس، ملأت سطوح المنازل بالدشوش، تقلب وجهها في السماء، تفتح أفواهها بلا شبع، بدون انطباق، تلتقط خبر الملأ العلوي، وما يوحي من الأخبار، بلمح البصر أو هو أقرب، تنهي عهد الكذب السياسي، والاحتكار المحلي، ويثبت العلم نفسه كمحطم رائع للجغرافيا. ومن حريق هيروشيما يولد السلام العالمي، في صدمة صاعقة غير متوقعة للسياسيين، الذي لا يرون في العادة أبعد من أرنبة أنوفهم، أو الجنرالات الذين أجرت عليهم مجلة الشبيجل الألمانية تحقيقاً، أنهم كانوا عبر التاريخ أكثر خلق الله بلاهة وحمقاً وإجراماً. وتبدأ الحيرة اليوم، عن أبسط الطرق وأقلها تكليفاً، لتفكيك الرؤوس النووية. هذه المرة سبق التطبيق النظرية، وتثبت فكرة المؤرخ البريطاني (توينبي) أن الأفكار الجديدة، يجب أن تتطابق مع الوسائل المطوَّرة؛ فلا يعقل وضع الزيت الطازج، في أزقة عتيقة مهترئة؛ فلا الزيت عليه نحافظ، ولا الأوعية تبقى.. هكذا جاء في الإنجيل. لا يمكن لنظام العبودية مع آلة (العضلات) أن يستمر مع تقدم آلة الحديد والبخار والكهرباء. لا يمكن للصناعة أن تترسخ وتحافظ على نفسها، في مجتمع عصري، بدون تطوير وسائل اللامركزية والديمقراطية. هل يمكن أن ننجو من الموت كقدر؟ كذلك الديمقراطية تتقدم في العالم بقدر كوني لازب. وسوف تدمر الديكتاتوريات ولو بعد حين. هذه الأفكار حول الإنسان الجديد، والسلام العالمي، تشبه ظاهرة السوبرنوفا لسياسي العالم الثالث، فكما تأخر وصول ضوء الانفجار النجمي مليون سنة إلى الأرض، فقد نبقى ألف سنة أخرى على باب العلم دون أن ندخله، لأننا لا نملك المفتاح. مشكلة العالم العربي أنه يعيش اليوم طوفان الحداثة، بدون سفينة نوح للنجاة الفكرية، بأعظم من طوفان نوح. طوفان نوح الجديد بعد سبعة آلاف سنة، ثقافي يطم بأمواجه الهادرة المشارق والمغارب، بدون عاصم من أمواج تجري بهم كالجبال. العالم العربي بعد سيف معاوية، ومصادرة الحياة الراشدية، وتأميم العقل، وإلغاء الفن، بعد إقفال باب الاجتهاد، وبناء المذهبيات من خلافات شخصية في التاريخ، تدفق فيه الصليبيون الفقراء، إلى العالم الجديد، فملكوا أربع قارات، وكل البحار، ومعظم الثروة والتكنولوجيا، والنفوذ العالمي، مدججين بإدارة عالمية، ومراكز البحث العلمي، ومصارف المال، بدون إقطاع وكنيسة وطاغية. العقل العربي اليوم مازال يمشي منكوساً على رأسه، بدون أن يحس بالدوار، لم يتكيف بعد مع العالم الجديد، لأنه لا يعرفه، فهو لم يشترك في صناعته منذ خمسة قرون، فيما يشبه قصص السندباد مع ملك الجان الأزرق. إن الحديث عن الحرية والديمقراطية وإرادة الشعوب تذكرني بقصة المغربية المرنيسي حين تحدثت مع جدتها عنها. ظنت الجدة وهي تقرب أذنها لتسمع جيدا يا بنيتي أين تقع هذه الجزيرة؟ أما ابنتي مريم فحين كانت تحدث امرأة بجنبها في الباص عن كندا. قالت: عرفت عرفت من هي تنكة؟