يتميز الإسلام -بوصفه الرسالة الإلهية الخاتمة- بعرض مضمونه وفق استعدادات الإنسان العقلية والقلبية والنفسية والاجتماعية، من ثم كان الإسلام دينًا فطريًّا، يراعي الفطرة في مجمل مكوناتها، فيشبع حاجة الإنسان للدين كما يشبع حاجته للقيم الإنسانية الرفيعة والأخلاق السوية، ويعرض كلّ ذلك في صيغ تراعي أسس موازين العقل. وبهذا يؤكد الإسلام بأنه منسجم مع الفطرة من حيث كون الفطرة يمكن التعبير عنها بالمعادلة الآتية. الفطرة = الدين + المبادئ المدبرة للعقل + القيم الإنسانية الرفيعة + أخلاق الفطرة. وفضلاً عن كونه كذلك، فقد استوعب حاجات الإنسان في جميع الأحوال (الفرد/الجماعة، الذكر/الأنثى، السلم/الحرب، الصغير/الكبير، الغني/ الفقير، الحياة/الموت، الدنيا/الآخرة...)، ووضع لها أطرًا تؤكد أنه من حيث مضمونه مراعيًا للفطرة التي عليها الإنسان في أصل خلقته. فلم يأت الإسلام مزاحمًا، فضلاً عن أن يكون مصادمًا لاستعدادات الإنسان وحاجاته، العقلية والدينية والأخلاقية والقيمية الإنسانية الكبرى. فكل ما كان من جنس ما سبقت الإشارة إليه، لا يكون إلا محل عناية واعتبار في صياغة الخطاب ومقاصده. لهذا كان الدين الإسلامي -مساعدًا في أصل وضعه- لاستعادة الإنسان فطرته، سواء تعلّق الأمر بالدين أو العقل أو الأخلاق أو القيم الإنسانية الكبرى. ولعل في قوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فيما رواه الترمذي: "إنما بُعِثتُ لأتمّمَ مكارمَ الأخلاق" ما يؤكد هذه المعاني. فإذا جاء الإسلام في شأن الأخلاق متمّمًا -أي، ما جاء ملغيًا مقصيًا لكل ما سلف- فإنه بالنسبة إلى سائر مكونات الفطرة لا يكون إلا كذلك، فقد جاء مساعدًا الإنسان لاستعادة الفطرة في جملة مكوناتها. يؤيد هذا المعنى ما ورد في الحكمة التي سارت بها الركبان "الحكمة ضالة المؤمن، أنّى وجدها فهو أحقّ بها". ومن القضايا ذات الصلة بالحكمة، مسألة الفن بصفة عامة والفنون الصوتية على وجه الخصوص. وإذا كان الفن وفق تعبير أهله "محاولات تعبيرية تستهدف تجسيد المشاعر الإنسانية" فهذا مما يراعيه الإسلام، ولا يمكن أن يمنع الناس من المنتسبين إليه من التعبير عن مشاعرهم الإنسانية أو تجسيدها، ذلك أنه دين يراعي استعدادات الناس وحاجاتهم، فضلاً عن كونه صيغ وفق ما ييسر لهم الاقتناع والإقناع. الحدث الفني يتعلق بالشعور والأذواق، لهذا يصعب عرضه على المحاكمات العقلية. وبالرغم من كل ذلك، فالفن الأرقى، هو الذي يمتزج فيه الصدق مع الجمال وخدمة المقصد الإنساني. من هنا كان الفن الأسمى ممتازًا ومتميزًا بوظيفة رسالية ذات أبعاد اجتماعية ظاهرة وذوقية رفيعة وبيّنة، تسهم في السمو المعنوي والرقي المادي، تتسامى فيه النفس إلى رتبة سامقة، تتطلّع إلى القيم الإنسانية الرفيعة وخدمة المقاصد الإنسانية النبيلة. الفنان المتزود بالمبادئ الإسلامية، المنبثق إبداعه الفني عنها، فنان يريد خدمة تلك المبادئ بوسائل فنية. فالإبداع في الفنون الإسلامية، منبثق عن القيم الأخلاقية المستندة إلى المبادئ المؤسسة للدين نفسه، وليس معنى ذلك أنها بمعزل عن الإنسان، بل هي متناغمة معه، ذلك أن الإنسان مفطور على حب الصورة الجميلة والصوت الشجي والأداء الحسن... وبما أن الإنسان مفطور على حب الجمال ويطرب للصوت الجميل، فلا يمكن رفض الفن الذي يمثل إما تعبيرًا بالرسم، أو تعبيرًا بالكلام -قولاً واحدًا- بل الأصل فيه الإباحة -على الأقل- وفق ما لا يتعارض مع المبادئ الشرعية، التي بدورها أتت وفق مقتضيات الفطرة الإنسانية في أصل الخلقة. من هنا نؤمن بمبدأ الاجتهاد في التعبير الفني، ومن ثم جواز الخطأ في البذل الفني، بشرط أن يكون الباعث على العمل الفني، السعي الدؤوب لتمثل الحقائق الإسلامية التي تتمحور حول التوحيد أساس الإيمان، والخير والسمو بالبشر إلى القيم الإسلامية المثلى. الفن مرتبط بالمرجعية الفكرية والدينية والإثنية للمجتمعات الإنسانية أو الرؤية الفلسفية، لهذا لا وجود لفن خارج عالم الإنسان الملون بالأرض والتاريخ والجغرافيا والعرق، ذلك أن الفن خصيصة إنسانية، فحيث وجد الإنسان وجد الفن، والفن بهذا المعنى، لا يكون إلا تصرفًا فطريًّا للإنسان في شعاب الحياة. ما حلَّ الإسلام بأرض وطلب من أهلها أن يخرجوا عما فطروا عليه، ذلك أنه دين الفطرة، يشهد لهذا المعنى ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جَدْعاء)، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم. قال ابن حجر في فتح الباري: الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه، بل إنما حصل بسبب خارجي، فإن سَلِم من ذلك السبب استمر على الحق. ومن الجوانب المتعلقة بالفطرة، تغنّي الإنسان وطَرَبه للصوت الشجي، فما دخَل الإسلامُ أرضًا وطلب من أهلها تغيير أنغامهم والألحان المتداولة بينهم، بل أقرهم على ما هم عليه، كإسعافهم على استعادة فطرتهم الدينية وفطرتهم العقلية والأخلاقية والقيم الإنسانية الرفيعة. ما أخرجهم عن أنغامهم، بل زوّدها بالوجهة فأسعفهم بالخروج من دائرة العبثية المؤسسة على اللذة والفن للفن، وجعل للفن رسالة إنسانية سامية، تنمّي في الإنسان الجوانب الفطرية وتسعفه على جعلها مندرجة في إطار الوجهة التوحيدية المستعادة (بالتذكير الفطري والمحاججة المؤسسة على الفطري من معارف العقل). دليل ذلك، ما دخل الإسلامُ أرضًا ونادى المؤذنُ فيهم بالصلاة بغير أنغامهم وألحانهم المتداولة بينهم، وما أنشد منشد أو مدح مادح أو... في المسلمين في مختلف أصقاع الأرض بغير تلك الأنغام والألحان التي تطرب لها أسماع أهل تلك الأرض... بل يُسمَع أثر ذلك في ترتيل القرآن الكريم، ودليل ذلك واقع أنغام الأذان والترتيل والمديح شرقًا وغربًا، عربًا وعجمًا. فأذان المدينةالمنورة مختلف عن أذان مكة، وهما مختلفان عن أذان إسطنبول، وهي بدورها متميزة عن أذان بغداد، وجميعها مختلفة نغمًا عن أذان المغرب الإسلامي، وفي المغرب الإسلامي نفسه تمايز؛ فالأذان الأصيل في الجزائر متميز نغمًا عن أذان تونس، وتميزهما نغمًا عن أذان المغرب (مراكش على قول إخواننا الأتراك)، ظاهر جلي، والتمايز نفسه ظاهر جلي في المديح والنشيد الديني ومختلف الأنغام. يُستَشفّ مما سبقت الإشارة إليه، أن الإسلام دين الفطرة، ما أتى ثورةً على الناس في أمورهم الفطرية، بل أتى مسعفًا للناس لاسترداد فِطَرِهم التي أجلتهم عنها برامج مؤسسات صناعة الوعي ممثلة في التربية والتعليم والإعلام... وما جاء بأنموذج واحد في الأنغام يُقصِي بها البعضَ ويبقي على البعض الآخر، بل راعى ما درج عليه الناس من أنغام فثمّنها وزوّدها بالوجهة التي تجعل من الفنون الصوتية وسيلة مهمة لتربية الأذواق، وتبليغ المبادئ والقيم السامية التي جاء بها الإسلام. وخلع الإسلام على الفن ميزته المتمثلة في الشمول، فلا يَقبل الإسلامُ الفصل بين الدين والدنيا، فكذلك الفن المعتبر في الإسلام، فهو ما كان خادمًا لذات الشمول ومعبّرًا عنه. فما كان مصادمًا للدين لا يكون مقبولاً للدنيا، وما كان مفسدًا للدنيا لا يمكن أن يقبل دينيًّا. ولا يُفهَم من ذلك أن الإسلام يُهمِل أحوال الناس وأوضاعهم فيجعل الجِدَّ قانونًا عامًا لا حيدة عنه كما يفهمه بعض أهلنا، بل القضية بحاجة إلى ضبط. فالإسلام وإن كان قانونه الجدّ، فمن دواعي استمرار الجد تعهّد النفوس بالترويح ساعة فساعة، وحديث حنظلة الذي أخرجه الترمذي يؤكد هذه المعاني: فقد ورد فيه أن أبا بكر مرّ بحنظلة وهو يبكي، فقال ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنّا رَأْيَ عين، فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيرًا، قال: فوالله إنا لكذلك. انطلقْ بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما لك يا حنظلة؟) قال: نافق حنظلة يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنّا رَأْيَ عين، فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيرًا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي، لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فرشكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ساعة وساعة). تمتاز الفنون الصوتية بجملة من الخصائص، رأسها الارتباط الوثيق بالمرجعية. رسالتها الرئيسة تبليغ الهداية الإلهية والتجاوب مع حاجة الإنسان للراحة والترويح لأجل المداومة على الجد، فتكون الفنون الصوتية معبّرة عن التوحيد في رؤيته للكون والحياة ومَنزِعِه لتنمية (تسامي) الإنسان وترقيته إلى ذروة الطاعة والتخلق بأخلاق النبوة؛ قصدُه استعادة الإنسان فطرته، ولكن في إطار عمل استئنافي يرفض البداية الصفرية في الفن، كرفضه البداية الصفرية في مبادئ العقل والأخلاق والقيم الإنسانية الرفيعة، بل جاء متمّمًا مثمّنًا لما بقيت الفطرة فيه سليمة. عن مجلة حراء، جوان 2013