بقلم: مهنا الحبيل* انتهى مشهد التوافق الروسي الأمريكي بعد لقاء سان بطرسبرغ والذي اختتم بقرار أصدره مجلس الأمن، بحدث كبير كرّس قواعد لعبة دولية لا تقف عند الملف السوري ولكن تتجاوزه لعلاقات جديدة في المسار الإقليمي للمنطقة الذي تبرز فيه إيران، فهذا التوافق الدولي أعاد طهران لمركزية المحور الإقليمي المنتصر بتثبيت قوته وبناء الجسر الجديد مع واشنطن. وتحول الموقف من ضربة عسكرية لحليف إستراتيجي حيوي هو نظام الأسد إلى قلبه لإتفاق على خطة عملية لتصفية الثورة السورية، وبناء توافق تاريخي ليس لتطويق ملف المشروع النووي الإيراني فقط ولكن لإعلان واشنطن ودوائر إعلامية وسياسية غربية تواترت بالتصريح أن إيران ولو بقيت الخصم المنافس أو الحليف المتقاطع فهي الشريك المرحلي اليوم مع الغرب في منطقة المشرق العربي وإن بقي الضجيج الصوتي عن حكاية الشيطان الأكبر. هذه النتيجة هي حصيلة لثلاثة عناصر إستراتيجية سبقت هذا التوافق الأخير، الأول هو ممارسة إيران بكل قوة اللعِب عبر بطاقاتها الإقليمية والحضور في المشهد الميداني والسياسي وبالتالي خضوع الطرف المقابل لاحترام طرف اللعبة المؤثر. والثاني عودة الرؤية ذاتها التي اجتمعت بين واشنطنوطهران ضد طالبان وضد حكم الرئيس العراقي صدام حسين في الخشية من تقدم الثورة السورية كقوة استقلال في المنطقة، وهو الموقف الذي تبنته تل أبيب لينتهي إلى قرار مجلس الأمن، والتحضير لصناعة المشرق العربي الجديد وبالتالي الشرق الأوسط الكبير تحت ظل هذا التوافق المرحلي الذي نظّم مصالح الأطراف الدولية الإقليمية، وانتهى بالعرب إلى أسوأ موقع وهو الضحية أو مقاعد الجمهور لا غير. أما العنصر الثالث فهو تحريك القدرة المادية ليس لدفع فواتير حرب عشوائية ولكن لشراء مواقف مصلحية وتقاطعات مع محور الصعود الجديد في موسكو وبكين تدعم من الخلف، وكذلك التقاط نقطة القلق المروع لساحة الرأي العام الغربي وخشيته من انعكاسات أي مواجهة عسكرية، ليستثمر هذا القلق للتقدم بقوة نحو هذه الإقرارات، بما فيه تفعيل اللوبي الإيراني داخل الولاياتالمتحدة الذي يتحرك بذكاء لا ليلوح بالتوأمة بغباء ولكنه يطرح صناعة التوافقات التي تخدم الوضع الإستراتيجي في منظور محوري طهرانموسكو وتل أبيب واشنطن. هنا ستبرز لنا قضية تُطرح موسميا، وماذا عن دول الخليج العربي باعتبار أنها تخسر حين يزحف التقدم الإيراني، وهي تحتاج وقفة مهمة أولها منهجية المقارنة؟ فأول ما يجب تحريره اليوم في هذه المسألة العودة إلى نموذج وصورة وواقع الدولة القُطرية في الخليج العربي. فهذه الدول التي كان يُطلق عليها مشيخات الخليج تقدمت في بعض نماذج التحديث العمراني والتعليمي وتشكيل هيئة دولة، لكنها لم تصل إلى مرحلة ممارسة سيادة الدولة الوطنية القادرة على قراءة رؤيتها في استقلال، وليس رؤية مصلحتها في تبعية الموقف الغربي. وهذا الأمر لا يعني أن سبب الخلل غياب سلطات المؤسسات الدستورية الفعلية ونفوذها فقط، ولكن يضاف إليها مصادر التقدير بين مصلحة المشيخة ومصلحة الدولة المستقلة. وبالتالي ينعكس ذلك إلى مساحة التقدم في إدارة الموقف مع السياسة الدولية والإقليمية كشريك، ولو شريك فرعي لكن لفرعيته قدرة على المناورة، وربما كانت هناك شخصيات ومحاولات في تاريخ هذه الدول، لكن تعود سياساتها من جديد إلى نقطة الصفر وهو التزام الموقف الغربي والتناغم معه حتى في التصعيد مع إيران والتهدئة سياسيا وطائفيا، ولذلك أظهرت نماذج عديدة قدمتها دول الخليج العربي صورتها كمحاسب وصندوق لفواتير الغرب لا كشريك في رسم سياسات المنطقة. وبقي هامش المناورة الذي يُمارَس محدود القدرات في الانتقال من طرح مشروع الشراكة وفقا لمصالح الدول الخليجية، إلى الضغط في داخل شراكتها مع المعسكر الغربي لتحقيق نتائج تنفيذية من هذا الضغط، وذلك جراء الغياب الكلي عن ساحة التحرك النشط في بطاقات المنطقة، بإدارة جسور التواصل وفرض قواعد التحالف المصلحي وليس من خلال بعض الممارسات الإستخبارية التي تبلبل صعود الثورات أو القوى المناهضة لإيران، وهو ما فوّت التأسيس لمصالح خليجية داخل منطقة المشرق العربي مع قوى الصعود الجديد. وهو ما جعل كل موقف الخليج العربي بضعة ملايين من المساعدات الإنسانية لسوريا وضجيجا إعلاميا ضخما، وعوضا عن تكريس ودعم وحدة الثوار بالهيئة التي ينتمون إليها من خلال دعم ميزانية دولة لجبهة ثورة، نشطت أوساط دينية للقيام بمواسم ضخ بعضها عشوائي صنع فرقة في الصف الثوري أكثر من وحدته. ولعل ذلك من أهم أسباب عودة الموقف الإيراني منتصرا، حين أدارت طهران قواتها وقوات أحزابها في المنطقة عبر مركزية قيادية شاركت النظام كليا بل وصحّحت أخطاءه في ذات الوقت الذي سعت دول خليجية لوقف أي تسليح نوعي حاسم والمراهنة على تدخل واشنطن. ويجب الإنتباه إلى أن المشكلة القائمة في التفكير الخليجي يغيب عنها كليا فكرة المحور الخليجي المستقل لأمنه القومي، والذي انهار كليا في فكرة وحدته أو اتحاده وبات هيكلا مواجها لرياح عاتية. ومع تصاعد نزعة سلطة المشيخة على سلطة الدولة، فإن هذه الرؤى تنحسر تماما عن قدرة التفعيل الإستراتيجي المواجه للمحور الإيراني الشرس والمنظّم والمحكم، وعليه تنهار هذه المواقف التي بدأت بالتحضير والدفع لأوباما لتنفيذ الضربة، مع محاولات كبح جماح الثورة السورية، إلى أن اختطف أوباما نصف الطريق الذي منحه إياه الدفع الخليجي ليعقد صفقة مع موسكووطهران على قاعدة كش ملك المفاجئة. هذا العرض يُظهر لنا التفاوت الضخم بين سياسة طهران الدولة القومية التي تقود اليوم تحالف أقليات في الشرق الأوسط بطمأنينة تدعمها تل أبيب وبين الواقع البائس لدول الخليج العربي، ومع كل ذلك فإن هناك نقطة منهجية أخرى لا بد من طرحها في معرض فهم التقدم الإيراني والتطوع الذاتي الذي قدمته دول الخليج العربي له. إن إطلاق مقولة إن دول الخليج العربي مناهضة للتقدم الإيراني هو إطلاق خاطئ بالتحليل السياسي المنطقي لحصيلة الواقع في مواقف المنطقة، فمع الإفادة الضخمة من تفريغ المنطقة العربية لعودة مصر الجديدة والذي مثلته حصيلة نتائج ثورة يناير 2011، التي أُطيح بها عبر دعم خليجي وإسرائيلي للفريق السيسي خدم إيران في توقيت حسّاس وشجّع على تهيئة أرضية التوافق الجديد لخريطة المشرق العربي، وغاب الرادع الذي بعثته مصر بعد ثورة يناير، فإضافةً لذلك فإن هناك قراءة واقعية مختلفة لهذه المواقف. فبعض دول الخليج العربي لها مصالح ليس اقتصادية فحسب بل حتى قراءات أمنية تتفق مع طهران سواء في تحييد الثورة السورية، أو في علاقتها السياسية الأمنية الذاتية. وخلافا لما يظنه البعض فإن هناك قراءات لهذه المشيخات ترى في العلاقة مع إيران توازنا لاستقرارها عبر حسابات، ولا تعنيها كليا مسارات التقدم الإيراني في العراق والشام لطبيعة النمط التفكيري للسياسة الأمنية لمشيخات هذه الدول، فيما يؤثر بقوة صعود النفوذ الإيراني على حسابات دول أخرى فتتجنب مواجهتها الإستراتيجية لقراءة قدراتها ومصالحها الذاتية في حدودها الداخلية أو لتوتر المشهد من حولها. وتبقى بعض المواقف في هذه الدول الخليجية وزعامات مشيخاتها أو حكامها، حتى لو صدرت في إطار تحد وتجريم للسياسات الإيرانية، أو هيكلة بعض المواجهات المخابراتية لها، فإنها تنتهي إلى وضع قرار المواجهة والتحجيم في يد الغرب الذي استلم نقودهم باليسرى ووقع اتفاقه مع طهران على حسابهم باليُمنى. المهم هنا في رسمنا لقواعد اللعبة الجديدة التي انتصرت فيها السياسة الإيرانية، هو التأكيد على التحييد الواسع الذي نُفّذ على دول الخليج العربي وإخراجها من سياقات المرحلة على الأقل في المشهد الحالي الحسّاس. ومع تقدم فكرة مطاردة الإصلاحيين والصراع الأمني الشرس مع التيار الإسلامي في الخليج العربي الذي تدفع به قيادات مشيخية منفصلة عن أدنى درجات المسؤولية السياسية فضلا عن الوطنية، فإن فرص التقدم الكبير بين توافق سايكس بيكو الجديد للمشرق العربي تزحف بقدرات أكبر تتجاوز مرحلة تصفية الثورة السورية إلى تقاسم الغنائم في الأرض الخليجية.