كان متوقعا من بعض الأوساط الإعلامية والنقدية أن تفوز الكندية آليس مونرو بجائزة نوبل للآداب. لكن الشك كان يأتي من الثقل الذي أصبحت تمثله الرواية في واقع الجوائز العالمية ومستوى المقروئية والجماهيرية التي يعيشها هذا الجنس الأدبي مقابل تراجع القصة القصيرة. غير أن النتيجة كانت لصالح القصة القصيرة، التي أعادت الجائزة لها الاعتبار، ومن المتوقع أن عدد القراء سيزداد بسبب هذا التتويج العالمي لكاتبة لم تكتب إلا رواية واحدة، وتفرغت للقصة القصيرة وراهنت عليها جنسا أدبيا مكنها في النهاية من انتزاع لقب (سيدة القصة القصيرة في العالم). كانت مونرو تُرشَّح كل عام للحصول على نوبل لكن البعض كان يستبعدها بسبب النظرة الدونية التي ينظر بها إلى جنس القصة القصيرة وهجرة كتابها إلى الرواية مما أحدث شبه شعور بأن القصة القصيرة عند البعض هي مرحلة من مراحل البدايات للروائي حتى يشتد عوده ويجد أسلوبه. وهذا طبعا من قبيل الخطأ والتسطيح، فلكل جنس أدبي خصوصيته. نهاية عصر هيمنة الرواية المتأمل في جنس القصة القصيرة وطبيعته الفنية وتنوعه الشديد يستغرب من عدم تصدر هذا الجنس الأدبي لراهن الواقع الأدبي في العالم. فهو بقصره وخفته وزخمه مؤهل نظريا ليتماشى مع طبيعة الإنسان المعاصر دون غيره من الأجناس الأدبية، ولكن الواقع كان للرواية بسبب الثقل الإعلامي الذي يخدمها ودور النشر التي تتجنب نشر المجموعات القصصية وأيضا الشعرية. ولكن كبار الروائيين عُرفوا بالقصة القصيرة مثل (إدغار آلن بو) و(تشيخوف) و(غوغول) حتى (روبرتو بولانيو) و(بورخيس)، وظل هذا الجنس الأدبي على الرغم من سوء حظه قبلة بعض الكتّاب الكبار الذين لم يتنازلوا عنه رغم نجاحهم في الرواية أو في الشعر. وقد وصف (بيتر أنجلوند) المتحدث عن لجنة التحكيم، الفائزة بالكاتبة التي ساعدت القصة القصيرة -هذا الشكل الخاص للكتابة- لتأخذ طريقها نحو الكمال. سبق أن ترجم د. أحمد الشيمي مختارات قصصية بعنوان (العاشق المسافر) لآليس مونرو وصدرت في سلسلة (آفاق عالمية) التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للثقافة، وعن قصصها يقول الكاتب أحمد الحضري إنها (تشي بثقافة واسعة، وملاحظة ثاقبة، وإخلاص كامل لفن القصة القصيرة، كاتبة هذه القصص لا بد أن تكون أديبة بدوام كامل، تأكل، وتشرب، وتمشي، وتحزن، وتنام، وهي واعية بذاتها كقاصة). تعتمد القصة القصيرة على التكثيف والدقة واللغة القوية والديناميكية والحرارة في العمل والتقاط التفاصيل، وهو ما برعت فيه مونرو (كأن جزءا منها انعزل عنها لا يفعل شيئا سوى المراقبة الذكية: مراقبة الآخرين، ومراقبتها هي نفسها وهي تنغمس في الحياة والمشاعر لتُخرِج هذه الشخصية الأخرى فيما بعد دفقات من التفاصيل والملاحظات التي لن تتوقف أمامها كقارئ متسائلا عن جدواها، أو عن إمكانية حذفها، فقط سوف تغوص معها برفق). وقد اهتمت مونرو بحياة النساء وتجاربهن في كتاباتها القصصية التي حفلت بجرأة كبيرة في رصد تلك الحكايات والتقاط الحميمي والمهمل والخفي من حيوات النساء، كل ذلك في لغة رشيقة وتخييل عميق يضفي على اليومي والعادي والمكرر مسحة جمالية وسحرا جميلا يرفعه إلى مستوى التجربة الإنسانية الفريدة رغم السوداوية التي تخيم على كتاباتها. نرصد ذلك في قصصها (الحياة العزيزة) و(حيوات بنات ونساء) و(شيء نويت أن أخبرك به) و(من تحسب نفسك) و(أقمار جوبيتر) و(صديق أيام الصبى). وقد سبق لمونرو أن قالت في أحد الحوارات (إن تعقد الأشياء -أعني الأشياء داخل الأشياء- يبدو لا متناهيا. ما أرغب في تبليغه أنه ليس هناك شيء سهل ولا شيء بسيط). وتقول عنها الفرنسية جونيفيف بريزاك (نعثر في قصص آليس مونرو -التي لا يتجاوز حجمها أربعين صفحة- على الغابات والقرى الصغيرة والحقول الطينية وأشجار الجكرندا التي يصنع منها الخشب النفيس، كما نعثر على قطارات تحدث فيها لقاءات بالمصادفة وسيارات تجتاز المسافات المديدة في الشتاء البارد ومكتبات يؤمّها أشخاص خجولون ومرتبكون يبحثون في الكتب عما يمكن أن يعيد إليهم التوازن المفقود). ومعظم المواضيع التي تتطرق إليها مونرو في قصصها -حسب بريزاك- تدور حول قصص الحب الخائبة وذكريات لا تنجلي من الذاكرة وحيوات تتحطم أمام عيون أصحابها وأطفال هم عادة ضحية الخداع وشيوخ وعجائز أهملتهم عائلاتهم ليعيشوا مرارة الوحدة وقسوتها. أنقذت تجربة مونرو القصة القصيرة من مأزق التهميش الذي حُشرت فيه بسبب (إمبريالية) الرواية وآن لهذا الجنس أن ينتعش ويستعيد زمنه الجميل، خاصة أنه يحمل كل ما من شأنه أن يصدره جنسا أدبيا معاصرا من خلال الثورة المعلوماتية وحياة الإنسان المعاصر والرقمي الذي بات ملولا ولا يصبر على قراءة ومتابعة الأعمال الأدبية الضخمة.