يسترجع الوزير السابق والموسيقار الكبير لمين بشيشي لحظات من ذكرياته خلال المهرجان الثقافي الافريقي الأول عام 1969 فيما يخص التحضيرات ودائرة الموسيقى التي أشرفها عليها وحصول المجموعة الصوتية التي أنشأها على الجائزة الذهبية ويتناول صاحب العديد من روائع الموسيقى الوطنية نخبة من القضايا الفنية وتفاصيل أخرى• *ماذا تحمل ذاكرتك من عبق المهرجان الثقافي الافريقي الأول 1969؟ - بالنسبة للجزائر الذين انتظر الكثير فشلهم في تخطيط وتسيير المهرجان لكن كان الموعد معجزة تحقق بصدق الرجال واصرارهم وبعد 40 عاما من الطبعة الأولى للمهرجان الثقافي الافريقي الأول تحضرني تلك الأجواء السحرية والعقوبة التي ما تزال تسكن ذاكرتي لقد كان المهرجان الأول تظاهرة تاريخية لأن فرسان تبنوا تجسيده رغم ضيق الوقت ومحدودية الإمكانيات•• فرسان آمنوا بالجزائر وبمعجزاتها وشكلت رؤاهم كتلة متراصة حتى يستقبلوا نخبة المثقفين والفنانين الأفارقة وحقق المهرجان نجاحا باهرا ونظم المهرجان من طرف منظمة الوحدة الافريقية التي مولته• * بماذا شاركت في المهرجان الثقافي الافريقي الأول؟ - كلفت بالجانب الموسيقي لأنه تم ضبط مجموعة من المسابقات في الموسيقى، الإنشاد، الفولكلور، الفنون الشعبية، المسرح وشخصيا تركزت جهودي على المجموعة الصوتية واخترت المجموعة الصوتية التابعة لثانوية عائشة وكانت ابنتي -رحمها الله وأسكنها فسيح جنانه- عضوا في هذه المجموعة القوية بأداءها ثم توجهت إلى المعهد البلدي وكان حينها على رأسها المبدع محي الدين باشطارزي والمسؤول على الانشاء أستاذ فرنسي اسمه "سوفور" فانضمت إلى المجموعة أصوات شابة هي الشقيقتين أحلام وإنعام بيوض، نعيمة ماجر، جميلة عراس وقد برزت فيما بعد وبعد أن نجحت في لم الأصوات النسوية وبحثا عن الأصوات الذكورية اتجهت إلى الإذاعة فانضم إلينا المميز عبيد، والفنان محمد العماري وأذكر أن برنامجنا دام 45 دقيقة وشاركنا في المسابقة بالموفار• وألفت تركيب موسيقي مدته 43 دقيقة حيث وظفت أغاني ملتزمة نابعة من التراث الجزائري والعصري وقدمت لوحة فنية متناغمة وشكل كوكتيلا متنوعا لطبوع الجزائر ومازلت أحافظ على التسجيل• * وماذا عن الميدالية الذهبية ما مصيرها؟ - سأسلم الميدالية الذهبية التي حزتها عام 1969 لوزارة الثقافة ولم أسلمها من قبل لأني لم تكن لدي الثقة الكاملة ويصل وزن الميدالية إلى 200غ من الذهب كما سأسلم أيض المخطوط الفائز بالجائزة الذهبية 1969 والابداع الراقي للفنان الراحل بوجمية موراق• * كيف استقبل الجمهور الجزائري المهرجان الثقافي الافريقي عام 1969 وكنا حديثي العهد بالاستقلال؟ - فرحة عارمة لا توصف وحماس فياض بحضور الأشقاء الأفارقة إلى الجزائر وتحولت العاصمة إلى باقة من الألوان والأنغام والأهازيج لأن النشاطات لم تنحصر في القاعات فقط بل برمجت الحفلات في الساحات العمومية والجوارية وأذكر أن فرقة تعزف في البريد المركزي لنجدها بعد 3 ساعات أو أقل بإحدى ضواحي العاصمة وحتى الساعات الأولى من الصباح• *ماذا عن وقائع الافتتاح؟ - إنطلق المهرجان يوم 20 جويلية 1969 وتواصل إلى غاية 31 جويلية وجرى الافتتاح الرمزي بحضور الرئيس الراحل هواري بومدين وأمين عام منظمة الوحدة الافريقية الراحل ديالوتيلي -الذي كانت نهايته مأساوية- وتميز الافتتاح باطلاق مئات الحمامات كرمز للسلام من ساحة البريد المركزي وما زال أحتفظ بالصور وأوضح أنه تم افتتاح رسمي احتضنه ملعب 20 أوت برويسو بحضور نخبة من المسؤولين الكبار• * ماذا عن أزمة توفير "الحمام" الماراطونية؟ - 4 أيام فقط قبل انطلاق المهرجان الثقافي الافريقي الأول اتصل وزير الأخبار المرحوم محمد الصديق بن يحي وهو المحرك والعصب الأساسي للتظاهرة بمدير المراسيم ليؤكد ضرورة توفير حمام كرمز في الافتتاح فتم الاتصال بمختلف الولايات للحصول على الحمام كما اتصلوا بجيراننا حتى وجدنا طلبنا في اسبانيا وأشير أنه تم تخصيص طائرة عسكرية خاصة لنقل أقفاص الحمام من اسبانيا نحو الجزائر إلى وهران ومن ثم إلى العاصمة عبر الشاحنات ولحسن الحظ أن الحمام وصل تماما في الوقت المناسب في حدود الساعة الرابعة زوالا فحمدنا الله• * ماهي أهم اللحظات التي ميزت المهرجان في دورته الأولى؟ - رغم أنني كنت غارق في تحضير عمل المسابقة لكن هناك محطتين مهمتين ويتعلق الأمر بالملتقى الأدبي حول رجال الفكر والعلم والثقافة بنادي الصنوبر وتميز اللقاء في اليوم الأول بمناقشة حادة بين وزيري الثقافة الغيني والسينغالي ففيما كان مختار ميبو مؤمنا بفكرة زنوجة افريقيا وأن افريقيا الحقيقية هي افريقيا السوداء فإن الوزير السينغالي كان يؤمن بأنها لا سوداء ولا بيضاء وكان النزاع والتوتر شديد لكن حنكة ودبلوماسية المرحوم محمد الصديق بن يحي هدأت الأمور وكلل الملتقى بإصدار كتاب يضم المداخلات• *وماذا بخصوص الميدالية الذهبية التي توجتم بها خلالها؟ - تحصلنا على الميدالية الذهبية وقد وقع قبلها إشكال في الموسيقى لأنه لم تصنف ولم تحدد المعايير، فتونس، ليبيا ومصر شاركوا بفرق منوعات أما الأشقاء الأفارقة فقدموا بفرق الجاز واخترنا نحن واحتفاءا بالمهرجان تقديم عمل "التقافريقي" من تصميم الراحل بوجمية مرزاق ولما جاء دور تحديد من سيفوز بالجائزة الذهبية حيث تم تصنيف لكل نوع موسيقى جائزة تحكيم قال جلول يلس للوزير لدينا إشكال فالأفارقة لا يعتبروا أن المعزوفة الكلاسيكية ليست من صميم الموسيقى الإفريقية لكن نحن قدمنا عمل رائع مميز بالمناسبة وإن كانت سمفونية لكنها مشبعة بالروح العربية والإفريقية -القارقابو- وحصلنا على الميدالية الذهبية• *وماذا عن مشاركة الراحلة مريام ماكيبا في الجزائر عام 1969؟ ولقاءك معها في أغنية "ماما أفريكا" 1972؟ - أريد أن أصحح بعض الأخطاء التاريخية فالراحلة مريام ماكيبا لم تكن مشهورة عام 1969 مقارنة مع الفنانة نيناسيمون، والفنان العازف آرشي شيب ولكنها كانت موهوبة وقدمت حينها أغاني بالإنجليزية واللهجات الإفريقية وبرزت عام 1972 بعد أداءها رائعة "إفريقيا" وأذكر أن الرئيس الراحل هواري بومدين وخلال جولته الإفريقية التقى بالفنانة في غينيا ورافقت الرئيس وبدعوة منه للمشاركة في احتفالات الذكرى ال 10 للإستقلال فلبت الدعوة وحضرت إلى الجزائر أوائل جوان 1972 ولما وصلت إلى الجزائر أرتأت أن تشارك الجزائر، فطلبت من الشاعر الكبير مصطفى تومي تحضير قصيدة للمناضلة الراحة ماكيبا وأشرفت على الموسيقى والتلحين وأول مرة صدحت ب "إفريقيا" كان بقاعة الأطلس يوم 5 جويلية 1972 بحضور الرئيس بومدين والرئيس مختار ولد داده ونخبة من المناضلين والسياسيين العرب والأفارقة وأصدقاء الثورة من الأوروبيين وقد أشرفت شخصيا على تمرين الفنانة القديرة ماكيبا في فيلا "صالامبار" وأشير أنها تعرضت لوعكة صحية حيث أصرت على أن ألقنها القصيدة ورفضت أن ترتاح وكانت المرة الأولى التي تنطق باللغة العربية• *ولكن ماذا عن إخفاقها في أداء كلمة "حرة" بدل "هرة"؟ - بحسها الفني لا حظت الفنانة مريام ماكيبا أن الجمهور كان يبتسم طويلا لما كانت تغني الأغنية وبعد إنتهاءها قالت لي لماذا الإبتسامات فشرحت لها فابتسمت بدورها ولكن حينما سجلت الأغنية نطقت بحرف الحاء جيدا، وأذكر أنها طلبت مني أن أمنحها متسعا من الوقت خلال أداءها لأغنية "إفريقيا" حتى توجه نداءا بكل اللغات إلى الشعوب الإفريقية لرفض الإستعمار• * وماذا تقول بمناسبة تكريم الراحلة مريام ماكيبا خلال المهرجان الثقافي الثاني بالجزائر؟ - مبادرة جيدة، فالراحلة مريام ماكيبا كانت طوال حياتها مناضلة وصوت قوي حملت قضية وطنها جنوب إفريقيا ضد نظام الآبارتايد وكان لديها الفرصة لتكسب الأموال الضخمة لكنها فضلت الإلتزام بالفن وبالقضية كما أنها نموذج للإنشاد والإنسانية والصدق وقد أحبت الجزائر كثيرا وقد سلم لها بالمناسبة (1972) بوزارة الأخبار جواز سفر جزائري، وللأسف رغم أنها طلبت مني لاحقا لحن أغنية جديدة وهو ما أنجزت لكن بسبب ارتباطي بمهمة خارج الجزائر حال دون ذلك وهي أغنية عاطفية ورغم أنني لم ألتقيها منذ ذلك الحين غير أنني مرتبط بها روحيا• * وماذا عن الأرشيف والملف الخاص بالمهرجان الثقافي الإفريقي الأول؟ - للأسف ملف المهرجان الأول بأدق تفاصيله موجود عند عائلة الراحل محي الدين موساوي وكان يشغل منصب أمين عام وزارة الأخبار وكان يقطن بباريس وأتمنى أن تعثر وزارة الثقافة على هذا المخطوط الثمين لأنه جزء مفصلي من الذاكرة الثقافية الجزائرية وقد كان المرحوم موساوي محي الدين هو رئيس تحرير سابق للمجاهد - ينوي تسليم الملف لوزير الثقافة السابق سليمان الشيخ لكن الظروف حالت دون ذلك• * وماذا عن الفيلم الوثائقي للألماني "كلاين"؟ - الفيلم لم يوفق كثيرا فقد عثرت على صور نادرة لكوناكري حول مهرجان 1969 لا نمتلكها نحن بالجزائر• * ماذا ننتظر من طبعة المهرجان الثقافي الإفريقي الثانية؟ - لاحق في تقييم المهرجان ومستواه التنظيمي الحديث يكمن في إذا ما سيرتقي هذا المهرجان في طبعته الثانية إلى مستوى الأولى حيث احتضن الشعب بعفوية وقوة هذا الموعد الذي جمع الأشقاء من القارة السمراء وأذكر أنه خلال جولاتي في شتى مواقع التظاهرات الفنية والثقافية لاحظت إنخراط وانغماس المواطنين البسطاء بما يقدم وشاهدت حتى دهشة الأطفال وأذكر أيضا أنه في اليوم الختامي طلب المرحوم محمد الصديق بن يحي إطفاء الأضواء فأطفأناها لكن المواطنين واصلوا حضورهم لأنهم اعتادوا على السهرات واللقاءات ويعكس ذلك مدى اهتمامهم بالحدث وأتساءل هل الجمهور سيهتم مثل 1969 لأن هذا هو المعيار الحقيقي للنجاح وحسب ما قرأته في وسائل الإعلام فقد رصد للمهرجان إمكانيات ضخمة• ومثلما ساهمت ومعتز بذلك في المهرجان الأول عام 1969 أنا محظوظ وفي آخر العمر وأنا أتابع نجاح المهرجان الثقافي الإفريقي الثاني 2009•ولا نملك الشك في قدرة الجزائر في التنظيم والنجاح رغم وجود بعض الصعوبات، وكم تمنيت لو تم تكريم أسماء فنية كبيرة ساهمت في إنجاح الطبعة الأولى على غرار الراحلين حداد الجيلالي وعمراوي ميسوم حفاظا على ذاكرتهم•